1226304
1226304
روضة الصائم

حرف وصناعات: صـناعـة الألـبـان

25 مايو 2019
25 مايو 2019

إعـــــــــداد: حمادة السعيد -

هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها فلقد حث الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.

ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي صناعة الألبان.

لقد وردت الحديث عن صناعة الألبان في القرآن في سورة النحل في قوله تعالى:«وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ» سورة النحل الآية: 66..

وورد الإشارة إلى اللبن في القرآن على أنه نعم الجزاء في الآخرة وذلك في قوله تعالى في سورة محمد:«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى». سورة محمد الآية: 15.

وهذا وإن دل فإنما يدل على أهمية اللبن للإنسان فقد ذكره الله أنه لأهل الدنيا غذاء ولأهل الجنة جزاء ليس هذا فحسب إنما أيضا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه.. ومن سنن الطعام والشراب كما جاء في السنن للإمام الترمذي والسنن للإمام أبي داوود بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه وإذا سقى لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن».

وهنا نتعجب لماذا اللبن بالذات لكن العجب يزول إذا ما قرأنا ما رواه الإمام النسائي في سننه والحاكم في مستدركه والبيهقي في معجمه وسننه عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: « إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَ مَعَهُ دَوَاءً، فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ، فَإِنَّهَا تَرِمُّ مِنَ الشَّجَرِ كُلِّهِ». أي تأكل من كل الشجر فتعطى خلاصته في ألبانها.

ثم يتحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن منتج آخر مع اللبن هو السمن وذلك فيما رواه البيهقي في السنن الكبرى عن مليكة بنت عمرو الجعفية، أنها قالت لها: عليك بسمن البقر من الذبحة أو من القرحتين، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن ألبانها أو لبنها شفاء، وسمنها دواء».

كذلك فإن اللبن يضرب به المثل على أنه النقاء والصفاء والفطرة وجاء هذا في رحلة الإسراء والمعراج في صحيح الإمام مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال «أتيت بالبراق - وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه - قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس - قال - فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء - قال - ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل - عليه السلام - بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل -صلى الله عليه وسلم- اخترت الفطرة».

وجاء في شرح النووي على صحيح مسلم مفسرا هذا فقال: (فألهمه الله تعالى اختيار اللبن لما أراده سبحانه وتعالى من توفيق هذه الأمة واللطف بها فلله الحمد والمنة وقول جبريل عليه السلام وقوله (اخترت الفطرة) فسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة ومعناه والله أعلم اخترت علامة الإسلام والاستقامة وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين سليم العاقبة وأما الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل والله أعلم.

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره لاختيار اللبن: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه والسر في ميل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره لكونه كان مألوفا له ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة. وإن كان اللبن هنا يدل على الفطرة في اليقظة فهو في الرؤيا يدل على العلم والقرآن واتباع السنة فقد جاء في صحيح الإمام البخاري بسنده عن ابن عمر قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم».

يقول ابن حجر يرحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري عن هذا «ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سببا للصلاح فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة عمر وان الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وان كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك ساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعا في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله».

وبعد هذا فليتذكر من يحترف هذه الحرفة ما حدث مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع بنت بائعة اللبن لما علم تقواها زوجها لأحد أبنائه وهو عاصم والذي خرج من بينهما خليفة طبق ونشر العدل على جميع الأركان وهو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز.

فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما وكفى بصاحب الحرفة فخرا أن أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرسل كانوا يأكلون من عمل يدهم وقد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.