أفكار وآراء

تجاذبات تيارات الإسلام السياسي وتآكل الايدلوجيات

25 مايو 2019
25 مايو 2019

ماجد كيالي -

صعدت تيارات «الإسلام» السياسي بكل تنويعاتها واختلافاتها، في السنوات الماضية، بطريقة مفاجأة ولافتة للانتباه، بيد أن مسار الصعود لم يصمد طويلاً، إذ سرعان ما هبطت تلك التيارات بالوتيرة ذاتها التي صعدت فيها، بل إن تداعيات هذا الهبوط تكاد تبدّد قرابة قرن من عمر ومكانة الحركات الإسلامية الدعوية والمدنية والسياسية.

الأهم من ذلك أن لحظة صعود تلك التيارات هي ذات اللحظة التي أدّت إلى وضع أفكارها التأسيسية في الاختبار، بصورة أكثر من السابق، وعلى الصعيدين المجتمعي والدولتي، في ظرف مفتوح على حراكات أو انفجارات شعبية في عديد من البلدان العربية.

بيد أن النتيجة تمخّضت عن كارثة، إذ المشكلة لدى التيارات الإسلامية، المعتدلة والسلمية والدعوية، كما المتطرفة والإرهابية و«المسلحة»، أن ثمة محاولات تعسفية لتحميل الدين أكثر مما يحتمل، بمعنى تحميله مفاهيمهم عما يعتقدونه حاجاتهم وأولوياتهم، ونظريتهم في الحكم وإدارة السلطة، وتطبيق الأحكام، بدون تمييز بين فقه الدين وفقه الدنيا، والإسلام المتخيل والإسلام الواقعي، والإسلام التاريخي وتاريخ المسلمين، ومحاولتهم وضع أفعالهم ومواقفهم في دائرة المقدس.

بديهي أن ذلك أدى الى انعكاسات سلبية وخطيرة، على نحو ما أثبتت التجربة في عديد من البلدان العربية، سيما مع ظهور ميلشيات مسلحة، تتغطى بالدين.

هكذا ثمة مفارقتين، في المشهد الحاصل، الأولى، مفادها أن هبوط معنى ومكانة جماعات الإسلام السياسي لم يحصل بسبب صدّها من قبل التيارات العلمانية أو القومية أو اليسارية أو الليبرالية، التي هي ضعيفة أصلا، وإنما بسبب اختلافاتها وصراعاتها فيما بينها.

فمن مصادفات الأقدار أن الجماعات الإسلامية/‏السياسية، بتنويعاتها، هي التي تنزع الشرعية عن بعضها البعض، أكثر من أي أحد أخر، وهي التي تكفّر بعضها البعض، والأهم أن كل واحدة منها تدعي إنها الفرقة الناجية، أو الوكيلة الحصرية عن الله، أو الممثل الحصري للإسلام والمسلمين، بحيث كشفت هذه الجماعات ذاتها، وقوّضت نفسها بنفسها، أكثر بكثير مما حاول الآخرون.

والحال، فقد بيّنت صراعات واقتتالات الجماعات الإسلامية فيما بينها إنها ليست نسيجا واحدا، فثمة جماعات معتدلة ودعوية وسلمية ومنفتحة وصوفية، وثمة أخرى متطرفة وعنفية وعدمية و«جهادية» وسلفية، كما بيّنت أن المنهج التكفيري هو بمثابة فكرة عدمية، ودوامة لا نهاية لها، تبدأ بتكفير المجتمع، ولكنها لا تنتهي مع تكفير أية جماعة أخرى تخالفها.

أما المفارقة الثانية، فتنبع من الواقع الذي شكلته «داعش» وجبهة «النصرة» وأخواتها، في واقع تيارات الإسلام السياسي، فنحن إزاء حركات إسلامية عنيفة ومسلحة، سلفية وأصولية، تتوخّى العودة بالمجتمعات إلى الماضي، وقامة دولة الخلافة أو الشريعة، وادعاء الحكم باسم الله، بدعوى تمثيل الإسلام.

بيد أن هذه الجماعات، في ادعاءاتها وطريقة عملها، ووحشيتها، أدت إلى نتائج معكوسة، إذ أنها قوّضت، دفعة واحدة، وبطريقة فجّة، الأفكار المؤسسة للتيارات الإسلامية، بشأن أن «الإسلام هو الحل»، و«الحاكمية»، وتطبيق الحدود، و«الجهاد» إلى يوم الدين، ومسخت فكرة الخلافة، وكشفت تهافت فكرة «أهل الحل والعقد»، وكسرت ادعاء أن ثمة فئة بعينها تحتكر تمثيل الإسلام والمسلمين. وكما شهدنا فإن كل ذلك حصل بطريقة انفجارية، ووسط تكفير ومقاتلة هذه الجماعات لبعضها ولغيرها.

معلوم أن هذه المفاهيم والمقولات كلها من نتاج أدبيات الإسلام السياسي، التي أسبغت على لحظات معينة من تاريخ الإسلام، وعلى مفاهيم كانت ابنة ظرفها، مثل «الجهاد»، صفة الإطلاقية، في حين إنها طرحت في البدايات، في ظروف الدعوة والتمكين.

أيضا ثمة مفاهيم من نتاج ما بعد مرحلة النبوة، أي نتاج المرحلة السياسية، والصراع على السلطة، في الإسلام، كالخلافة، و«أهل الحل والعقد» و«الحاكمية»، مثلا، فهذه لم يأخذ ولم يوص بها الرسول الكريم ولا يمكن التعامل معها كمقدس. بل وثمة كثير من المفاهيم، والتصورات المتخيلة، أدخلت على الدين، وفقا لتحيزات السياسة والسلطة، عبر قرون، إلى درجة إنها حلت محل الدين، ومسحت معناه السمح والقيمي، وبات ينظر إليها كمقدس، في تناقض مع قيم الرحمة والعدل والكرامة والحرية والمساواة، التي وردت حتى في النص القرآني: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» و«لا إكراه في الدين»، «ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، في تجرؤ حتى على الذات الإلهية، وادعاء الوكالة عن الله في محاسبة الخلق والوصاية عليهم.

المشكلة في هذا المشهد المعقد والانفجاري أن التيارات الإسلامية المعتدلة والدعوية، وباستثناء انتقاداتها بعض التصرفات التي اعتبرتها مجرد غلو وتصرفات جزئية وآنية، لم تقم بما عليها لا للدفاع عن الإسلام، ولا للدفاع حتى عن ذاتها، بالتمايز عن الجماعات المتطرفة والإرهابية والعدمية، وكشفها ونزع شرعيتها الدينية، وتقويض أطروحاتها. بل ربما إن بعضها ظنّ إنها تشتغل بعضا من شغله، أو إنها ستصبّ عنده.

وقد ثبت بالتجربة خطر هذه التوهمات، التي أدت إلى تآكل مكانة الجماعات المعتدلة لصالح الجماعات المتطرفة. كما أدت إلى شيوع نظرة مفادها أن الفرق بين الجماعات الدينية هو في الشكل وليس في النوع، وأنها كلها تنتمي إلى الماضي، وتنزع إلى العنف، والتطرف، وأنها لا يمكن أن تتعايش أو تتكيف، مع الواقع والعصر والعالم، وكل ذلك يودي إلى انكشاف أو تآكل صدقية تيارات الإسلام السياسي تماما كما حصل مع التيارات القومية واليسارية في مراحل سابقة، كأن دورة أفول التيارات الأيدلوجية الكبرى باتت مكتملة.