روضة الصائم

الأحكام الشرعية بين الثبوت والتغيير

23 مايو 2019
23 مايو 2019

د. مريم بنت سعيد العزرية -

باحثة شؤون إسلامية -

إن الشريعة الإسلامية المباركة تتميز بالثبات والدوام وبالتطور، أي ثبات المبادئ والأصول، وتطور الوسائل والأساليب المبنية على المصالح المتغيرة، مما يتيح للشريعة الإسلامية المرونة والسعة واستيعاب ما يستجد من الوقائع والنوازل والتكيف معه، وهذا من أساب حفظها وصلاحيتها لكل زمان ومكان واستيعابها لجميع الناس وأحوالهم.

إذ إن الشريعة الإسلامية لم تنص على حكم كل واقعة وشخص؛ بل جاءت بمقاصد وقواعد كلية عامة تستوعب الوقائع والقضايا الجديدة. ومن جانب آخر أقرّت كذلك تغير الأحكام بتغير مناطاتها الأصليّة وفقا لما يطرأ عليها من العوارض والقرائن المؤثرة في تطبيق الحكم وتحقق مقصوده وصيانته، وهذا يدل على مسايرتها لظروف الناس وما يطرأ عليها من تبدلات وحالات طارئة تستوجب المراعاة.

ومن هنا فإن التمييز بين الأحكام الشرعية الثابتة والمتغيرة له من الأهمية بمكان، حيث إن الخلط بينهما يؤدي إلى الإخلال بمقاصد الشريعة الثابتة وتمييع الأحكام الشرعية وتغييرها وفق الأهواء والشهوات أو الجمود على غير ما هو مطلوب شرعا، وهذا كفيل بهدم الدين كله. وعليه فالأحكام الشرعية عموماً تنقسم إلى قسمين: أولاهما الأحكام الثابتة، وهي الأحكام المنصوص عليها نصا قطعيا ودلالتها محكمة لا تحتمل التأويل، حتى لو تصور العقل البشري إمكانية الاستغناء عنها أو استبدالها بحجة أنها لا تتلاءم مع مقتضيات العصر، فالحق أن هذا الأحكام ثابتة بالوحي المعجز وحددها طرقا مضبوطة إلى مقاصدها وغاياتها لا تتحقق بدونها وتنخرم لتغيرها وتختل بإهمالها، فعندما لا تحقق مقاصدها ليس بخلل فيها وإنما لسوء تطبيق الناس لها. ويكثر هذا النوع من الأحكام في خطاب الشارع ومقاصده الكلية وتعاليمه، فتندرج تحته قواعد وأصول الاعتقاد والفضائل وتشمل كذلك أصول العبادات والمعاملات، وبدخل تحته الأحكام الوضعية للعبادات من أركان وأسباب وشروط وانتفاء موانع ونحوها، كاشتراط الطهارة والنية وستر العورة واستقبال القبلة ونحوها من الأقوال والأفعال المتعلقة بصحة الصلاة وتحقق مقصدها، وكذلك اشتراط النصاب وحولان الحول وغيرها من الأمور الموضوعة لتحقيق مقصد الزكاة، ‏‏واعتبار صيغة التراضي بين المتعاقدين سواء عن طريق التلفظ بالإيجاب والقبول أو عن طريق النية والقصد وغيرها من الأحكام.

وفي جانب آخر يراعى أن هناك من الأحكام الشرعية المنصوص عليها لكن وسائل تطبيقها قابلة للتغيير بشرط المحافظة على ثبات الحكم ومقصده؛ لأن الوسائل قد تتغير من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى أخرى، فإذا نص الوحي على وسيلة معينة فإن ذلك لبيان الواقع لا لتقييد العباد بها والجمود عندها. وأحيانا يدخل التغيير على الأحكام المنصوص عليها بدليل قطعي، لكن لا يمس الحكم من حيث هو، وإنما بسبب ما التبس به مما يتعلق بالمكلف أو بأعماله أو بالشروط الخارجية، وهذا ما يتعلق بالرخص والاستثناءات من باب رفع الضرورة والحرج بسبب الظروف الطارئة.

وينبّه هنا إلى أن ثبات أحكام الإسلام لا ينافي وجود الاجتهاد، فإن الاجتهاد يكون فيما لا نص فيه، أو وجد فيه دليل ظني الدلالة تختلف الأفهام في معرفة المراد منه. والقسم الثاني من الأحكام هي الأحكام المتغيرة: وهي الأحكام القابلة للتجديد والتغير حسب الزمان والمكان والأعراف والعادات، مما يؤدي إلى تحقيق مرونة الشريعة الإسلامية وشموليتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان. وقد حاول العلماء ضبط ما يدخل في هذا القسم من الأحكام، فحدوها بشرط أن تكون وسائلها ليست تعبدية مقصودة لذاتها نهائيا، وأن لا تكون شرعت لمصلحة متعينة في ذاتها وإنما مصلحتها فيما تفضي إليه؛ فتكون هذه الوسيلة قابلة للتغيير إذا تيسرت وسيلة أخرى تحقق المقصود أكثر منها أو فقدت هذه الوسيلة قيمتها ولم تبقَ محققة لمقصدها. وتشمل سائر الأحكام الظنية التي لا تندرج تحت نصوص قاطعة صريحة، والأحكام التي تعينت بطريق الاجتهاد المضبوط بالقياس أو المصالح المرسلة أو العرف.

ومن أجل ذلك قرر العلماء مبدأ جواز تغير الأحكام بتغير الأحوال والأزمان والأعراف. وقد ثبت أن اجتهادات الصحابة  والفقهاء من بعدهم وتغييرهم لظاهر الأحكام ليست تعطيلا للنصوص بل إنها إعمال لها بطريق آخر، فإنها مبنية على الموازنة بين النصوص والجمع والترجيح بينها بالقواعد الشرعية، وكذلك مبنية على الفهم المصلحي للنصوص وما يقتضيه من إعمال المصلحة المنضبطة بضوابطها الشرعية.

والأحكام المتغيرة كثيرة ومتعددة، تشمل عموما جملة الكيفيات والطرق التي تخدم الاعتقاد والعبادات والمعاملات ولم ينص عليها، وكذلك سائر المسائل الاجتهادية الظنية التي تقبل التأويل والترجيح. ومن أمثلتها: مبادئ العدل والشورى والقصاص والتعازير المختلفة التي يتخذها الحاكم بقصد الردع والزجر، هي وسائل اجتهادية إلى تحقيق ذلك المقصد، إذ يبحث الحاكم في تحديد أقوى الوسائل وأجداها في تحقيق المقصد وتثبيته. ‏وكذلك الإجراءات والتدابير المتغيرة التي يقيد بها الحاكم بعض المباحات بهدف تحقيق المصلحة، وكذلك وسائل حفظ الأمة وأدائها رسالتها القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائل الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنعي عن المنكر متغيرة بحسب الزمان والمكان، كما هو مشاهد، حيث دخلت في هذه الوسائل أمور محدثة لم تكن في السابق، كوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.

فلذا فإن الأمة بحاجة اليوم إلى أن تفقه أبناءها ضرورة وآلية التمييز بين المقاصد ووسائل تحقيقها، وبين الوسائل الثابتة منها والوسائل المتغيرة الاجتهادية، وكذلك التفريق بين البدع والوسائل المشروعة؛ إذ إن المجتمع المسلم المعاصر عموما يعاني من تناقض المجتهدين بين الجمود على النصوص ورفض التجديد والتغيير وفق مقتضيات الواقع وفقه مقاصد الأحكام، وبين اعتبار الغايات والمصالح مطلقا على حساب الأحكام الثابتة حتى طال تغييرهم لبعض الوسائل الثابتة قطعا والتي لا تقبل الاجتهاد والتغيير، وكذلك المجتمع المسلم يعاني من مشكلة الاقتباس عن الغير دون أن يكون له مقياس واضح أو مراجعة ناقدة لها، وفي المقابل تعصب فريق من المسلمين في جواز الاستفادة مما عند الغير بدعوى منع التشبه والتقليد للكفار، وهذا أفضى ذلك إلى تأخر الأمة المسلمة في باب الوسائل الدنيوية، كوسائل الطب والاتصال والمواصلات ونحوها. بينما نجد مجتمع الصحابة  والسلف الصالح من بعدهم يقتبس بعض الوسائل عن الأمم الأخرى، ولكنه كان اقتباسا مبنيا على منهج واضح ووعي صحيح في ضوء هدي التشريع الإسلامي الحنيف، فكانت الحضارة الإسلامية إشعاع خير للكون كله.