Untitled-1
Untitled-1
المنوعات

بول أوستر يخترع العزلة في حجرته وحيداً بالكلمات!

19 مايو 2019
19 مايو 2019

ليلى عبدالله -

يتماهى الروائي الأمريكي «بول أوستر» في حديث حميمي عبر كتابيه «اختراع العزلة» ترجمة «أحمد العلي» دار أثر 2017م و«رحلات في حجرة الكتابة» ترجمة «سامر أبو هواش» دار المتوسط 2018م. يواصل فيهما كشط تاريخه الشخصي عارضاً تفاصيل في منتهى الشجاعة والجرأة كحديثه عن أبيه وطباع هذا الأب الذي كان وراءه حادثة صعقت طفولته في وقت مبكر، فكما يسرد أوستر في «اختراع العزلة» فقد شاهد «سام أوستر» أمه تقتل والده في المطبخ، وقد عاش بقية حياته حابساً هذه الحادثة في مكنون صدره دون أن يخبر بها أحداً، فترعرع مع طباعه الغامضة التي لم يُعرف لها تفسير من قبل أبنائه وأصدقائه المعدودين، غير أن «بول أوستر» الذي صعقته صدمة موت والده المفاجئ.

كان موته كفيلاً بفضّ أسرار خبيئة عن طباع هذا الأب العتيق، الذي ظل يعيش وحيداً بعد طلاقه من زوجته وتفرق الأبناء، لقد كانت أشياؤه التي خلفها وراءه مليئة بغبار السنوات والعزلة، لقد اخترع هذا الأب عزلته كما وصفه أوستر في سطور الكتاب: «عاش وحيداً لخمسة عشر عاماً: عنيداً، غامضاً، لكأنه محصن ضد العالم. لم يكن يبدو كرجل يحتل حيزاً من الفراغ، وإنما ككتلة من حيز منيع على هيئة رجل. يرتد العالم عنه، يتهشم أمامه، وأحياناً يلتصق به حد التماهي دون أن يخترقه وحده في كل شيء، ومثل شبح، عاش طوال السنوات في بيت شاسع حيث باغته الموت».

من خلال شخصية الأب يغزل بول أوستر عزلته عبر حفر الذاكرة وحديث طويل عن معنى الخسارة وكيف أنه بدوره يتصيّد أكثر اللحظات اصطداماً مع ذاكرته الشاسعة، الذاكرة التي بقيت له وحدها بعد مغادرة والده له، الذكريات التي صار يسترجعها عبر المقتنيات التي تركها هذا الأب المشوب بالغموض.

كأنه في هذا الكتاب يحاسب أبوّة رجل ظل غريبّا عنه، أب جعل منه كائنّا وحيدًا، مقطوعًا عنوةً من شجرة الحياة، بل كأنه في هذا السرد المريع يرى نفسه في هيئة هذا الأب الأناني الذي تلهى بنفسه وغرق في عوالمه المعتمة تاركًا ابنه بلا قدوة وبذاكرة ممسوحة أيضا، متخليًّا عن مسؤولياته كما لو أنه لم يكن أبًّا قط حين تخلى عن حياته بتلك البساطة، حين رحل مقتولاً! أما في كتابه «رحلات في حجرة الكتابة» فهو تداخل للحكايات ورغم ذلك تجري الحكاية في يوم واحد، يستهلها أوستر بحديث غامض عن رجل كبير في السن يسميه شيخاً ثم سرعان ما يختار له اسما «بلانك» الذي يجلس على السرير وحيدًا وبالبيجامة وكومتان من الأوراق متكدسة أمامه على الآلة الكتابة وعشرات الصور الفوتوغرافية وهي لوحدها جزء آخر من حكاية مخفيّة يتلهف القارئ معرفتها، في هذه الغرفة التي تكون ماهيتها غير واضحة المعالم وتفاصيلها مربكة غير أنها رويدا رويدا عبر سرد «بلانك» الآسر تتضح أسرار الشخصية وبقية التفاصيل التي تستدعي تركيز قارئ يقظ كي لا يتيه؛ لأن الحكاية لا تكاد تستكين في حيّز واحد بل منتقلة ومتّقدة ومتحفّزة بوتيرة تقطع الأنفاس، فهي تتداخل مع حكاية رواية يقرأ منها «بلانك» أثناء السرد ويلاحقها بدوره ككابوس يجثم على ذاكرته التي تبدو معطوبة أو معطّلة، ويقوم بضّخها عبر قراءة من مجلدات متكدسة على طاولة قريبة من مكان نومه في حجرة تبدو لوهلة أولى كسجن أو كغرفة في مشفى. في وسط هذه الأجواء الغامضة يؤمن بول أوستر بأن الحكايات وحدها هي ما يدفع المرء نحو اليقين في هذه الحياة المربكة والهشة والفارغة من حوله كجدران حجرته: «أؤمن بأن القصص المكتوبة ستواصل النهوض والمقاومة، لأنها تجيب على كل ما يحتاجه العقل البشري. من جانبي أعتقد أن الأفلام قد تختفي قبل الرواية، لأن الرواية هي المكان الوحيد الذي يجمع بين غريبين بمحض الصدفة، بحيث أن القارئ والكاتب هما من يصنع الرواية سوية، لأنك كقارئ ستقتحم الوعي الباطن لشخص آخر ستعوم في أغوار دواخله وستقوم باكتشاف أشياء قد تكون وجدت داخلك أنت، وهذا بدوره سيمدك بالحياة أكثر».

عبر هذا التواصل مع الحكاية ما بين الراوي والقارئ يستعيد هذا العالم عافيته، ويظل مطوّقاً بالحياة مهما بدت التفاصيل حولنا قاسية وعنيفة وجالبة للخسارات، على الأقل، هكذا يؤمن السيد «بلانك».