1220858
1220858
روضة الصائم

حرف وصناعات: الـفـخـار

19 مايو 2019
19 مايو 2019

إعـــــــــداد: حمادة السعيد -

هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها؛ فلقد حثّ الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.

ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي الفخار.

والفخار من أقدم الحرف التي عرفتها البشرية وقد اشتغل بها الكثير من الصالحين حيث يتم خلالها صناعة الأواني من الطين وتنسيقها ليتم استخدامها بعد ذلك في الطعام والشراب وكذلك في تخزين وتثليج المياه ناهيك عن عملية التنقية لهذا الماء ومن ثم فهي من أفضل الفلاتر الطبيعية والتي ليس لها أي أضرار جانبية وهذه المهنة لاقت تطورا عبر العصور من حيث أماكن تصنيعها وإن كانت لا تزال حتى وقتنا هذا تحتفظ بالأشكال والصور البدائية، وقد ظلت حتى منتصف القرن العشرين وهي قائمة بالصورة التي كانت عليها في العصور الأولى وتلك المهنة تحتاج لمثابرة في تعلمها ولها مدارس تعليمية خاصة بها ولقد جاءت الإشارة إلى هذه الحرفة عند الحديث عن خلق آدم عليه السلام حيث قال تعالى في سورة الرحمن «خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)».

جاء في تفسير «حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن» للعلامة محمد الأمين :خلق الإنسان من {صَلْصَالٍ} والصلصال: الطين اليابس له صلصلة؛ أي: صوت ليبسه إذا نقر. {كَالْفَخَّارِ} الفخار: الخزف. وهو الطين المطبوخ بالنار كالآجر...

فأمر الله تعالى عزرائيل، فوضع ما أخذ من الأرض في وادي نعمان بين مكة والطائف، بعد ما جعل نصف تلك القبضة في النار، ونصفها في الجنة، فتركها إلى ما شاء الله، ثم أخرجها، ثم أمطر عليها من سحاب الكرم، فجعلها طينا لازبا، وصور منه جسد آدم.

واختلفوا في خلقة آدم عليه السلام، فقيل: خلق في سماء الدنيا، وقيل: في جنة من جنات الأرض بغربيتها، كالجنة التي يخرج منها النيل، وغيره من الأنهار، وأكثر المفسرين: أنه خلق في جنة عدن، ومنها أخرج، كما في «كشف الكنوز» وفي الحديث القدسي: خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا يعني أربعين يوما، كل يوم منه ألف عام من أعوام الدنيا، فتركه أربعين سنة حتى يبس وصار صلصالا، وهو الطين المصوت من غاية يبسه، كالفخار، فأمطر عليه مطر الحزن تسعا وثلاثين سنة، ثم أمطر عليه مطر السرور سنة واحدة؛ فلذلك كثرت الهموم في بني آدم، ولكن يصير عاقبتها إلى الفرح، كما قيل: إن لكل بداية نهاية، وإنّ مع العسر يسرا.

وكانت الملائكة يمرون عليه، ويتعجبون من حسن صورته، وطول قامته؛ لأن طوله كان خمس مائة ذراع، الله أعلم بأيّ ذراع، وكان رأسه يمسّ السماء، ولم يكونوا رأوا قبل ذلك صورة تشابهها.

جاء في «أنِيسُ السَّاري في تخريج وَتحقيق الأحاديث التي ذكرها الحَافظ ابن حَجر العسقلاني في فَتح البَاري»:«إنّ الله خلق آدم من تراب فجعله طينا ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا خلقه وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صَلْصَالاً كالفخار كان إبليس يمرّ به فيقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه. وكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطس فقال: الحمد لله، فقال الله: يرحمك ربك»

وجاء في السراج المنير شرح الجامع الصغير للعزيزي :« خلقت الملائكة من نور وخلق الجان أي أبو الجن وهو إبليس (من مارج من نار) هو لهبها الخالص من الدخان (وخلق آدم مما وصف لكم) في كتابه أي وصف الله بقوله من صلصال كالفخار والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة إذا نفروا الفخار والخزف وهذا لا يخالف قوله من تراب لأنه خلقه من تراب جعله طيفاً.

وجاء في كتاب «العرب في العصور القديمة» للطفي عبد الوهاب: لعل الفخار يصور حضارة المجتمع الذي كان يوجد في شبه الجزيرة في الفترة السابقة للإسلام. أكثر من غيره من أنواع الآثار الأخرى. فالفخار في العصور القديمة كان السلعة أو الأداة التي تستخدم أكثر من أي شيء آخر في الحياة اليومية. فمذ كانت تصنع أواني الطعام، والأوعية اللازمة لحفظ أو تخزين بعض أنواع المؤن مثل الزيت والنبيذ، كما كانت تصنع المزهريات وأوعية البخور التي تستخدم في الطقوس الدينية سواء في المعابد أو في أماكن الاجتماعات، ومنه كذلك كانت تصنع بعض الدمى الصغيرة لأغراض دينية أو في الحياة اليومية.

وقال الطبري في تفسيره: وقوله: خلق الإنسان من صلصال كالفخار يقول تعالى ذكره: خلق الله الإنسان وهو آدم من صلصال: وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ، فإنه من يبسه له صلصلة إذا حرك ونقر كالفخار؛ يعني أنه من يبسه وإن لم يكن مطبوخا، كالذي قد طبخ بالنار، فهو يصلصل كما يصلصل الفخار.

وجاء في «مفتاح دار السعادة» لابن قيم الجوزية: تأمَّل نعمة الله على الإنسان بالبيانَيْن: البيان النُّطقيِّ، والبيان الخطِّيِّ، وقد اعتدَّ بهما سبحانه في جملة ما اعتدَّ به مِنْ نِعَمه على العبد؛ فقال تعالى في أوَّل سورةٍ أنزلت على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5].

فتأمَّل كيف جمع في هذه الكلمات مراتبَ الخلق كلَّها، وكيف تضمَّنت مراتبَ الموجودات الأربعة بأوجز لفظٍ وأوضحه وأحسنه: فذكر أوَّلًا عمومَ الخَلق، وهو إعطاءُ الوجود الخارجيِّ. ثمَّ ذكر ثانيًا خصوصَ خَلق الإنسان؛ لأنَّ موضع العِبرة والآية فيه عظيمة، وذكر مادَّة خَلقه هاهنا من العَلقة، وفي سائر المواضع يذكُر ما هو سابقٌ عليها، إمَّا مادَّةً أصليَّةً وهو التُّرابُ أو الطِّين أو الصلصالُ كالفخَّار، وإمَّا مادَّة الفرع وهو الماءُ المَهِين، وذكر في هذا الموضع أوَّل مبادئ تعلُّق التَّخليق به وهي العَلقة؛ فإنه كان قبلها نطفة، فأوَّلُ انتقالها إنما هو إلى العَلقة. ثمَّ ذكر ثالثًا التعليمَ بالقلم الذي هو من أعظم نِعَمه على عباده؛ إذ به تُخَلَّدُ العلوم، وتثبتُ الحقوق، وتُعْلمُ الوصايا، وتُحْفظُ الشهادات، ويُضْبطُ حسابُ المعاملات الواقعة بين النَّاس، وبه تقيَّدُ أخبارُ الماضين للباقين، وأخبارُ الباقين للَّاحقين. ولولا الكتابةُ لانقطعت أخبارُ بعض الأزمنة عن بعض، ودَرَسَت السُّنن وتخبَّطت الأحكام، ولم يَعْرِف الخلَفُ مذاهبَ السَّلف، وكان يعظُم الخللُ الدَّاخلُ على النَّاس في دينهم ودنياهم؛ لِمَا يعتريهم من النِّسيان الذي يمحو صُوَر العلم من قلوبهم، فجَعَل لهم الكتابَ وعاءً حافظًا للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظُ الأمتعة من الذَّهاب والبطلان.

وصناعة الفخار من الصناعات التي لاقت انتشارا واسعة في جميع البلدان على اختلافها فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما وكفى بصاحب الحرفة فخرا أن أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرسل كانوا يأكلون من عمل يدهم وقد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.