أفكار وآراء

جيفرسون والإسلام... حوار أمريكي مبكر

17 مايو 2019
17 مايو 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

لم تتعرض علاقة دولة حديثة بالإسلام والمسلمين إلى جدل كبير مثلما تعرضت العلاقة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية، والدين الإسلامي، لا سيما في العقدين الأخيرين، الأمر الذي يجعل الكثيرين يوقنون بأنها علاقة حديثة أو مستحدثة، في حين أن أوراق التاريخ تحمل لنا ذكريات وعلاقات قديمة، قدم الآباء المؤسسين انفسهم.

في مقدمة الرجال العظام الذين قامت الولايات المتحدة الأمريكية على رؤاهم التاريخية والإنسانية يجيئ الرئيس الثالث للبلاد «توماس جيفرسون»، وهو احد المفكرين السياسيين في العصر المبكر للجمهورية الأمريكية، والمؤلف الرئيس لإعلان الاستقلال ومؤسس الحزب الجمهوري الديمقراطي، كما انه واضع القوانين التي تحمي الحرية الدينية في الولايات المتحدة والتي طبقت بدءا من العام 1786.

في رمضان تطفو على السطح النفحات الروحانية، ومن خلالها نحاول البحث عن الشخوص الذين لعبوا دورا كالجسر والقنطرة بين الأمريكيين وبين المسلمين، وفي واقع الحال فإننا نجد أن جيفرسون كان من أوائل الأشخاص الذين اعترفوا بحق المسلمين واليهود وحتى الوثنيين في أن يكون لديهم إيمانهم الخاص، وبسبب آرائه الخاصة بالحرية السياسية والدينية، كثيرا ما تعرض جيفرسون للهجوم وبصورة متكررة إلى الدرجة التي كانت أصابع الاتهام توجه له بأنه مسلم، في حين انه كانت دعوته رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لما قال به الفيلسوف الانجليزي الشهير «جون لوك» صاحب الكتاب الأشهر «رسالة في التسامح »، والذي كان يدعو إلى قبول اليهود والمسلمين في أوروبا القرن السابع عشر.

من بين افضل المؤلفات التي ظهرت في الداخل الأمريكي خلال الأعوام القليلة الماضية، كان كتاب الأكاديمية الأمريكية «دينيس.ا. سبيليبرغ»، والمعنون «جيفرسون والقرآن... الإسلام والآباء المؤسسون»، وفيه تضيء جانبا غير معروف كثيرا، لكنه مهم فيما يتعلق بقصة الحرية الدينية الأمريكية، وهي قصة مثيرة اضطلع الإسلام فيها بدور مدهش.

ففي العام 1765 أي قبل احد عشر عاما من كتابة «بيان الاستقلال» قام توماس جيفرسون باقتناء نسخة من القرآن الكريم، فكان ذلك بمنزلة الإشارة الأولى إلى اهتماماته بالإسلام الذي استمر طوال حياته، كما تابع الحصول على مزيد من الكتب حول لغات الشرق الأوسط وتاريخه والأسفار إلى المنطقة، مدونا ملاحظات كثيرة حول الإسلام ولا سيما الأمور التي يمكن ربطها بالقانون الانجليزي العام، المبني على العرف والعادة.

فقد سعى جيفرسون إلى فهم الإسلام، على الرغم من وجود مشاعر ازدراء شخصية أساسية لديه حيال هذا الدين، وهي مشاعر كانت تستحوذ على معظم معاصريه من البروتستانت في انجلترا وأمريكا، بيد انه على خلاف الكثيرين منهم، تمكن جيفرسون في العام 1776 من تصور المسلمين بوصفهم مواطنين مستقلين في بلاده الجديدة.

المثير والجميل في هذا العمل انه يبحث في منطقة التنوير الأمريكية التي كانت في بدايات النشأة الأمريكية، لا سيما المفكرين الأوائل من الأمريكيين الذين حملوا أفكارا تسامحية وتصالحية مع الآخرين، بعدما عانوا معاناة كبرى في أوروبا القرون الوسطى.

ومع استمرار الشكوك حول الإسلام، وازدياد أعداد المواطنين الأمريكيين لتصبح بالملايين، تغدو رؤية سبيلبيرغ لمفهوم الآباء الجذري ملحة اكثر من ذي قبل، ومن هنا تأتي أهمية هذا العمل ومجيئه في وقته من حيث النظر إلى المثل التي وجدت حين أسست أمريكا،، والى التضمينات الجوهرية بالنسبة إلى حاضرها ومستقبلها.

افضل ما في الربط بين جيفرسون وبين الإسلام، هو فكرة البحث والحوار التي دارت قبل ثلاثة قرون بين رئيس عظيم لبلاده بل يعد من افضل واهم الرؤساء في تاريخ البلاد، وبين دين كانت تشوب المعلومات عنه ضبابية كبيرة، وكان يمكن لها أن تتأثر من جراء الرؤى الأوروبية المتصارعة مع الأتراك، أو من كان الأوروبيون يطلقون عليهم المحمديين في ذلك الوقت.

لقد كان جيفرسون والمؤسسون يعرفون الإسلام معرفة على نحو ما، ومعرفتهم بالإسلام لم تكن وافية، وربما كان ذلك جزئيا بسبب العمى غير المقصود، لأن الكثير من الرقيق الذين جلبوا من افريقيا كانوا مسلمين، غير أن ذلك لم يكن ليثير انتباه المؤسسين، لأن معرفتهم بهم كانت تتركز في فكرة عامة وهي انهم كانوا أناسا مختلفين كثيرا عنهم.

ولم يكن لدى الكثير من الأمريكيين إن كانوا أساسا يفكرون في هذه القضية، شكوكا في أن المسلمين يشكلون خطرا على أمريكا وعلى الدين المسيحي. وهذا ما جعل أولئك الذين ينافحون عن التسامح الديني في الأمة الجديدة، مثل جيفرسون وماديسون وجورج واشنطن، يتخذون من المسلمين شبحا متخيلا، أو سيناريو في أسوأ الأحوال، لإظهار أنهم حتى في ذلك الوقت، يجب ألا يكون هناك تقييدات على إمكانية أن يمارسوا طقوسهم الدينية وان يشاركوا بصورة كاملة في الحياة بصفتهم مواطنين.

والشاهد أن الحديث عن علاقة جيفرسون بالإسلام تقودنا إلى طائفة من المفكرين الأوائل في القرون الوسطى الذين اختاروا بان يكون المسلمون القضية القياسية لتعيين الحدود النظرية لتسامحهم مع جميع المؤمنين. وبسبب سوابق العنف الأوروبي بين اتباع الدين الواحد اصبح المسلمون أيضا جزءا من النقاش الأمريكي حول الدين وحدود المواطنة.

ومع بدء تشكل حكومة جديدة في الولايات المتحدة كان المؤسسون الأمريكيون، وكلهم بروتستانتيون يشيرون كثيرا إلى اتباع الإسلام، وهم يفكرون في المجال الصحيح للحرية الدينية والحقوق الفردية بين سكان الأمة الحاليين والمحتملين.

ماذا عن الحوار الذي دار في أمريكا المبكرة حول مفهوم الدين والمواطنة، أي القضية التي باتت تشغل عالمنا المعاصر بشكل غير مسبوق؟

الشاهد وبحسب الأكاديمية الأمريكية، فقد ناقش جيل التأسيس ما إذا كان على الولايات المتحدة ان تصبح بروتستانتية بشكل حصري أو حكومة توافق ديني.

هنا ينبغي علينا أن نوضح للقارئ العربي والمسلم لماذا البروتستانتية هي التي كانت صاحبة الذراع العليا في بدايات أمريكا.. فالسبب راجع في حقيقة الأمر لأن المهاجرين الأوروبيين الأوائل الذين كونوا نواة التجمع السكاني الجديد في الأراضي الجديدة، جلهم كانوا من البروتستانت الذين انشقوا عن الكنيسة الكاثوليكية، وادعوا بأنهم تعرضوا إلى العسف والخسف، رغم ارتكاب العديد منهم لمذابح تجاه مخالفيهم في العقيدة أو المذهب الطائفي.

مهما يكن من أمر كان الصراع الأوروبي دينيا ومذهبيا، فقد سادت فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة عند البعض، ولهذا كان الحديث الأمريكي الأول عن المساواة بين المواطنين وبغض النظر عن العقيدة الدينية.

هنا كان التساؤل إذا كان يحق للبروتستانتي أن يرتقي أعلى الدرجات في سلم الوظائف أي إلى درجة رئيس للبلاد، فهل يمكن للمسلم أن يفعل ذلك؟

الشاهد أن ذكر المسلمين كمواطنين محتملين للولايات المتحدة قد اجبر الغالبية البروتستانتية على تخيل سمات مجتمعهم الجديد بعد التسامح، وألزمهم التساؤل عن طبيعة الحرية الدينية: قضية «الاختبار الديني»، في الدستور مثل التي ستوجد على المستوى الرسمي في القرن التاسع عشر، ومسألة «ترسيخ ديني» محتمل من المسيحية البروتستانتية، ومعنى انفصال الدين عن الحكومة وما مداه.

صفحات هذا العمل الكبير والجليل تثبت لنا أن توماس جيفرسون دافع وآخرون عن الحقوق الإسلامية لأجل «مسلمين متخيلين»، وهو تشجيع ستثبت مواطنته النظرية العالمية الحقيقية للحقوق الأمريكية، وفي الحقيقة كان هذا الدفاع عن مسلمين متخيلين سيخلق أيضا مجالا سياسيا للتفكير بحقوق أقليات مكروهة أخرى، مع أنها قليلة جدا، وهي اليهود والكاثوليك.

ومع أن المسلمين هم الذين جسدوا مثال الإدراج فإن اليهود والكاثوليك غالبا ما كانوا يرتبطون بهم في النقاش الأمريكي المبكر، عندما قاتل جيفرسون وآخرون من اجل حقوق جميع من هم من غير البروتستانتيين.

أحد الأسئلة المثيرة للتأمل هل كان لجيفرسون تأثير على أول رئيس لأمريكا أي على جورج واشنطن نفسه؟

الشاهد انه في العالم 1784 أي بعد عام من 1783 عام الاستقلال الرسمي للأمة الأمريكية عن بريطانيا، ضم واشنطن المسلمين نظريا إلى عالمه الخاص في فيرنون، ففي رسالة إلى صديق بحثا عن نجار وبناء بالأجر للمساعدة على إنشاء بيته في فيرجينيا وضح ان مذاهب العمال أو عدم وجودها لا تهم على الإطلاق: «إذا كانوا عمالا جيدين، قد يكونون من آسيا أو افريقيا أو أوروبا. وقد يكونون محمديين (مسلمين) أو يهودا أو مسيحيين من أي طائفة، أو قد يكونون ملحدين».

وبشكل واضح كان المسلمون جزءا من فهم واشنطن للتعددية نظريا على الأقل لكنه لم يكن يتوقع فعلا أي مقدمي طلبات مسلمين.

والشاهد أن الحقوق الأمريكية الإسلامية أصبحت حقيقة نظرية مبكرا، لكنها كحقيقة عملية كانت أبطأ بكثير في تطورها، بل إنها أضحت موضع اختبار يومي، ومؤخرا علق جون اسبوزيتو وهو مؤرخ مميز للإسلام في أمريكا المعاصرة بالقول: «إن المسلمين مدفوعون للتساؤل: ما هي حدود هذه التعددية الغربية».

افضل ما يمكن للقارئ الخروج به من قراءة صفحات توماس جيفرسون ونسخة القرآن التي اقتناها مبكرا، فكرة إسقاط الخوف من الآخر، وهذا لن يتأتى إلا من خلال التلاحم والحوار والجوار الإنسانيين، عبر الزمان والمكان.

فالحوار يقيم جسورا من المعرفة المتبادلة، انه يضيئ مساحات مظلمة عديدة في حياتنا البشرية، والناس أعداء من يجهلون، وعليه فإنه حال تعارفهم يكون المتوقع منهم على مستوى النسيج الاجتماعي افضل وارحب.

لم يكن توماس جيفرسون يكره المسلمين، ولم يسمح للخوف بأن يشكل آراءه حول المستقبل في الولايات المتحدة، وقبل وفاته بسنة كتب جيفرسون إلى ابن صديق له. كان والد الشاب قد الح عليه لعمل ذلك كي «يترك أثرا طيبا».

وبتوقع موته نصح جيفرسون «احبب جارك مثل نفسك، وبلادك اكثر من نفسك».

السطور السابقة تبين لنا انه كان بين أمريكا والعالم الإسلامي جسورا أيديولوجية طيبة ذات يوم، وانه يمكن تقليب صفحات ذلك التاريخ والاستفادة منها في تعزيز واقع معاصر جديد بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين العالمين العربي والإسلامي، عبر الحوار والجوار، لخدمة البشرية جمعاء في الحال والاستقبال.