1218396
1218396
روضة الصائم

إفطار على وقع صوت المآذن والمدافع وأوان فخارية تـزاحــــــــم الصينية

17 مايو 2019
17 مايو 2019

شهر رمضان بالجزائر.. فيض عبادات وتشبث بالعادات -

إعداد : د.أم السعد عبد الرحمن مكي -

بحلول شهر رمضان “يجي الخير” -حسب ما يتردد في البيوت الجزائرية-، فهو الشهر الذي تتعدَد فيه مظاهر العبادات، تماما كما تعيد العائلات فتح دفاتر الموروث المجتمعيَ فيما يتصل بالمأكولات وترتيب البيوت وتنميقها، وفتح بيوت الله وتنظيفها، وتوفير مؤونة الأسبوع أو الشهر كاملا، تتعدد الأطباق الرمضانية بحواملها المختلفة من أوان فخارية تزاحمها الصينية الألمانية، وكما تتعدد القربات إلى الله من صدقات وصلوات وصلة الأرحام، التي تبدأ مع انسلاخ الخيط الأبيض من الأسود انتهاء إلى الإعلان عن موعد الإفطار الذي أسند إلى مآذن المساجد بعد أن كانت تؤديه مدافع الثكنات عبر صافراتها.

الأسواق الشعبية

تنحسر مظاهر الشهر الفضيل في المدن الجزائرية في ثلاثة أركان رئيسية وهي التي تعجَ عادة فيها الحركة البشرية، بين أسواق شعبية “مفتوحة”، تحتل مساحات معتبرة من قلب المدن، وقد عرفت توسعات رأسية وأفقية منذ إنجازها الأول حيث تتجذر في تاريخها بين الحقبة العثمانية وفترة الاستعمار الفرنسي، وبحكم امتدادها في الزمن تزايد عدد الناشطين بها، وعملوا دائما على ضمان وفرة السلع للزبائن.

وبين “مولات” وسوبرماركت” حديثة النشأة، والتي باتت تستقطب أعدادا متزايدة من الزبائن الذين يبحثون عن فرصة للتسوق “في الظل” وبنوع من الرفاه المفقود في الأسواق الشعبية، غير أن هذه الأخيرة تبقى الوجهة المفضلة للجميع سواء كانوا زبائن أو تجارا شرعيين أو موازين (مشتقة من التجارة الموازية التي راجت بشكل رهيب في السنوات الأخيرة وجعلت حتى الأطفال يندمجون فيها ويبحثون عن حصة في الأسواق المحلية التي تغيب عنه الرقابة والحفاظ على الملك العام).

كذلك تشهد الأسواق ديناميكية متصاعدة منذ التسعينيات لليوم، بحكم انفتاح السوق الجزائرية وتحولها لحاوية كبيرة لمختلف السلع الأجنبية، التي تتداخل فيها “الماركات” ويعلو فيها شأن المنتجات الصينية والألمانية المنشأ، مع ترجيح الكفة الصينية منها بحكم سعرها المنخفض نوعا ما، وهو ما تبحث عنه خاصة ربَات البيوت في شهر رمضان، بحكم الغلاء وتدني مستوى المعيشة، وخاصة فيما يتصل بانتقاء الأواني بكل أنوعها وأحجامها والمواد التي تدخل في تركيبتها.

ويلفت الانتباه في ذلك انتشار كبير للأواني الفخارية وما تجذبه من زبائن بحكم التمسك بالتراث الجزائري من ناحية، وأيضا امتثالا لنصائح المختصين الذين يحرصون على العودة لاستخدام الفخار في مائدة الطعام نظرا لمنافعها الصحية وتجنبيها الإصابة بأمراض سرطانية.

كما تتزاحم في الأسواق أنواع شتى من الخضر والفواكه، اللحوم والأسماك، بين المحليَ منها والمستورد، واللافت في ذلك ازدهار تجارة التوابل التي لا تخلو المائدة منها في شهر رمضان، بدءا بما يعرف محليا ولدى الأشقاء المغاربة بـ “رأس الحانوت”، والفلفل “العكري”، والكمون، والكركم والقرفة، كما أن هذا التنوع في الأسماء نجده أيضا منعكسا في قائمة الخضر والفواكه والتي تحاول أن تتراجع عن وجهها الأجنبي لدعم المنتوج المحلي، لما لا والأمر بات ممكنا منذ سنوات قليلة بانتشار وازدهار الفلاحة الصحراوية، التي ضمنت للمستهلك وفرة ونوعية انعكست على السعر الذي أصبح مقبولا نوعا ما، رغم أنه يسجل ارتفاعًا محسوسًا في رمضان وفي مناسبات معينة.

مع الإشارة، إلى أنه ومنذ سنوات ليست ببعيدة أصبحت هذه الأسواق والتي كانت حكرا على الرجال فحسب، محط ارتيادِ مكثفِ من قبل النساء وربما بمعدلات تفوق الرجال بكثير، ولعلَ ذلك كان سببا مباشرا في قلب موازين معدلات الاستهلاك بالمجتمع الجزائري، نتيجة “هوس” المرأة بكل ما هو جديد على صعيد الأواني المنزلية، وأثاث البيت، ومختلف مستلزماته، فأصبحت القائم على شؤون المنزل.

«الشربة» و«الحريرة»

عرف تحضير المأكولات في المطابخ الجزائرية تعددًا وتنوعًا في الوصفات ومصادرها، بين التقليديَ الحاضر بقوة والمتمثل في طبق رئيسي المسمى محليًا “شربة لفريك” التي تشتهر بالشرق الجزائري، وتقابلها: “الحريرة” في الوسط والغرب، حيث لا تزال النساء في العاصمة الجزائر، قسنطينية، تلمسان، وهران، عنابة وقالمة تتمسك بها كأطباق موروثة عن أمهاتها، وتحرص على استقبال الشهر بـ “طاجين الحلو” تيمنا بطعمه “الحلو” حتى يكون عامرا بالخيرات والبركات، وهو مزيج من برقوق وزبيب مع لحم الغنم.

التمسك بالتقاليد لم يكن الحاضر الوحيد على الطاولة أو “المائدة” الجزائرية، فالنساء والفتيات تحديدا يحاولن مواكبة ما يعرض على شبكة الإنترنت وعبر تطبيقاتها المختلفة من وصفات تشتهر بها صفحات الكثير من الطباخين في العالم، منها خاصة التركية، حيث ضمن “اليوتيوب” لهن وفرة في المعلومة، وتفصيلا أكثر في طريقة التحضير لمختلف المأكولات، وأصبح الحديث عن “شهيوات أم وليد” يحيل إلى نوع من الاكتفاء، وحالة من التشبع، لكون هذا التطبيق سيعمل على تزويدهن بأي طبق أو خلطة وبأقل تكلفة وهذا ما تراهن عليه المرأة عموما.

«الوزيعة»، «التويزة»، «النفقة»

تخصص مصالح وزارتي الداخلية والجماعات المحلية والتضامن والأسرة سنويا ميزانيات لدعم الأسر الفقيرة ومحدودة الدخل، وذلك بعد عملية إحصاء لمفرداتها، حيث تخصص منحا جزافية للتضامن والتي تندرج ضمن قانون المالية السنوي وتأتي تحت مسميات متعددة منها “قفة رمضان”، والتي كانت تشتمل على مستلزمات غذائية، وفي شكل إعانات مالية تصرف عن طريق حسابات بريدية.

وتتسع القائمة لتشمل جهود الهلال الأحمر الجزائري خلال الشهر الفضيل، وقوافله وموائده التضامنية، والجمعيات ذات الطابع الخيري التطوعي، والمطاعم الخاصة التي تحمل اسم “مطعم عابر السبيل”، أو “الرحمة” وهي تشير إلى احتواء كل من لم يجد محلا للإفطار، وتشكل نقاط استقطاب عابري السبيل والمعوزين وحتى الكثير من الطلبة خاصة الأجانب.

أما على صعيد المبادرات المجتمعية فهي كثيرة وترمي إلى تحقيق أكبر قدر من التكافل، التضامن والتآزر المجتمعي، وتأتي في مناسبات مختلفة منها الحرث والحصاد، وفي جني الزيتون وخلال شهر رمضان وفي عاشوراء، فنجدها في منطقة القبائل الكبرى تأتي تحت مسمى “الوزيعة”، وفي مناطق أخرى بشرق البلاد تحمل اسم “النفقة”، وفي الجنوب تحمل اسم “التويزة”، وهي تشير إلى قيام بعض المجموعات بتجميع مبالغ مالية لاقتناء بقر أو غنم ونحره وتوزيعه بشكل متساو بين العائلات وخاصة الفقيرة منها، ويسبق ذلك عادة حلول الشهر لضمان وفرتها، ولتحقيق نوع من المساواة في المائدة الرمضانية بين مختلف طبقات المجتمع.

من جهتهم بادر بعض التجار في عدد محدود من الولايات إلى تبني فكرة الأسواق التضامنية، والتي تقوم على خفض سعر خاصة الخضر والفواكه بل وتسقيف السعر بها مثلا عند حدود “50 دينارا” مثل المبادرة التي تمت خلال هذا الشهر.

ما حصل هذه السنة وكـ “استثناء”، فإن مطاعم “الرحمة” و”عابري السبيل” بدورها دخلت معترك الساحة السياسية، وبأمر من قائد الأركان الفريق قايد صالح، فقد وجه أمرا حسب ما تتحدث عنه أوساط محلية يفيد بأن تفتتح مقرات قسمات حزب جبهة التحرير الوطني –الحزب الحاكم في الجزائر” كمطاعم لدعم الأسر الفقيرة، والغرض من وراء ذلك هو لإعادة ترميم علاقة “الصدئة” بين الحزب والمناضلين ومحيطه، حيث يمكن أن تصنع موائد الإفطار الرمضانية ما عجزت عن فعله اللقاءات السياسية التي أصبحت مشحونة على الدوام وبين المناضلين أنفسهم، ومقدرتها في ترجيح كفة الموعد الانتخابي القادم وفقا للتكتيك السياسي المعتاد.

خطوات موزَعة بين المساجد والساحات العامة

يبدو رمضان في الجزائر بنكهة مدنه المفتوحة مباشرة على السماء، فهو الشهر الذي تأخذ الأسواق والأعمال المنزلية والإدارية شطر نهاره كله تقريبا، وبعد الإفطار تبدأ مرحلة ثانية تتوزع مواقيتها بين من يفضلون المقاهي والتي تفتتح عادة دقائق بعد آذان المغرب مباشرة، فهناك الكثير من الكهول والشباب ممن لا يستغرق إفطارهم بضع دقائق ويخرجون مهرولين نحو المقاهي.

هذا ما جعل الساحات العامة تعجَ بالناس، وعزَز فتح المقاهي والتي تمتد حدودها في هذا الشهر لتصل حدَ الطرقات العامة، وذلك حسب اختيارات المجموعات الملتئمة استعدادا لتأدية سهرة فريدة لا تأثير للتلفزيون المعلق بالواجهة فيها إلا في مناسبات المباريات الرياضية، كما تزدحم المساحات المخصصة للعائلات والتي أصبحت ملاذا للنساء والفتيات ومنفذا من جهد البيوت المضني.

على صعيد آخر يتوجه الكثيرون وبكثافة ملفتة نحو المساجد التي باتت تعج بالمصلين ومن الجنسين ومن أعمار مختلفة في هذا الشهر، وهو ما يعكس عن حالة من “فرط العبادات”، ولا نكتم سرا إن قلنا: إن هناك الكثير من الناس ممن يصلون فقط في هذا الشهر وينقطعون الأشهر المتبقية، ولذلك فإن مظاهر العبادة في رمضان تكتسي طابعا خاصا، تظهر في الحرص على أداء الكثيرين الفرائض الخمس بالمساجد، وفي أداء صلاة التراويح والتهجد في العشر الأواخر منه تأسيَا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

كذلك تبرز بشكل كبير في الالتحاق بالمدارس القرآنية التي تنامى نشاطها بشكل ملفت في السنوات الأخيرة، وما تقوم به من دور بارز في تنشيط مشاركة الحافظين لكتاب الله ودمجهم في المسابقات التي تنظمها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف عن طريق مديرياتها عبر 48 ولاية جزائرية لحفظ أجزاء وختم المصحف الشريف، والتي تعرف تنافسا على أشدَه، وكذلك بإشراكهم في مسابقات دولية، وقد حقق ذلك نتائج مثمرة.

تأمين المساجد والإدارات والأسواق

على الصعيد الأمنيَ فقد جندت مصالح الشرطة والدرك آلاف الشباب من المنتسبين إليها لتأمين المساجد والإدارات العمومية، وكذا محاور مختلف الطرقات الوطنية والولائية والبلدية، وعلى مستوى الأسواق، والساحات العامة، نظرا لتزايد عدد مرتاديها، وذلك تحسبا لتمضية شهر رمضان لهذا العام بهدوء وأمن وهي ترتيبات تتخذ سنويا، كما تتم في مناسبات أخرى على غرار الدخول الاجتماعي، موسم الاصطياف، والمواعيد الانتخابية.

«الزلابية» ولقاءات الأسر ببعضها

اختزال شهر رمضان قد يكون فيما يشتهر به من سهرات والتي تتكرر على مدار ثلاثين يوما، والذي بانتهائه عادة يتحدث الناس وبحسرة بالغة عن سيادة حالة من “الرتابة” داخل الأسر وفي المحيط السكني، وبعده مباشرة تعود المدن إلى سباتها القديم، تلك السهرات التي ليست فنية ولا على درجة عالية من الرقي، إذ تكتفي العديد من العائلات بلقاءات عفوية عقب كل إفطار بين شوارع وأزقة الحارات والأحياء، وألعاب الصغار التي لا تنتهي إلا مع وقت متأخر من الليل.

حتى أن الكثير من الجزائريين المهاجرين يحرصون على العودة إلى “لبلاد” لتمضية الشهر والاستمتاع بتفصيلاته الممتعة، وانعكاس ذلك على أبنائهم ممن يجدون في شوارع المدن ما لا يمكن أن يعثروا عليه في شوارع باريس ولا برلين، حيث أبواب المنازل المشرعة، والألعاب التقليدية التي لم يستطع الزمن أن يتجاوزها لليوم محفورة في الذاكرة، كيف لا والمقاهي تتداخل بين المطاعم التي تنشط عقب صلاة العشاء حتى ساعات الفجر، ولا أحد يحدد سقف أبنائه بموعد ليلي ثابت، ولسان الحال يقول “في شهر رمضان يمكن كسر كل قاعدة، ولا مجال لفرض الآباء سلطانهم على الأبناء”.

كذلك فإن أحد تمظهرات الشهر الفضيل تتجلى في حلوى “الزلابية”، والتي تشتهر بها منطقة “بوفاريك” بالعاصمة، وفي الشرق الجزائري بقسنطينة وقالمة، هذه الأخيرة التي تتصاعد شهرة زلابية “عين مخلوف” بها، وليست الزلابية الحلوى الوحيدة بالجزائر، لكنها الأكثر استهلاكا وشهرة، حيث يزاحمها في المائدة الرمضانية قلب اللوز، والقطايف وحلويات أخرى حسب كل منطقة.

كذلك تنظم عادة خلال شهر رمضان الفضيل عمليات ختان للأطفال الصغار وذلك في حفلات جماعية يقوم بها الهلال الأحمر في منتصف أو أواخر الشهر، أو بشكل منفرد على مستوى بعض العائلات، كما يتم الاحتفاء بالصائمين الصغار للمرة الأولى ممن تنظم لهم موائد خاصة تبعا للأطباق التي يرغبون في تناولها خلال أول يوم صيام في حياتهم.

موعد الإفطار من صوت المدافع إلى مآذن المساجد

شكَل “مدفع رمضان” على مدار سنوات الاحتلال الفرنسي وحتى فترة ليست ببعيدة أحد أشهر أداة لإعلان الصائمين وإعلامهم بحلول موعد الإفطار، وهذه الأيقونة العسكرية كانت ولا تزال تمثل في المخيال الجمعي آذان لـ “كسر الصيام” حسب الدلالة العاميَة الجزائرية، ولعل الكثير من القلاع والحصون التي شيدت وما تزال أثارها حاضرة في الجزائر “المحروسة” ومدنها تحتفظ في ركن منها بذكرى عن إطلاق مدفع الإفطار في ذات رمضان.

غير أن سياق التحوَل المسجل على مدار السنوات الأخيرة جعل هذه المهمة التي كانت تشد اهتمام الصغار والكبار ممن يلتفون قرب المدفع في انتظار إطلاق ضربته مناطة اليوم بمآذن المساجد، خاصة بعد أن أُوجد واحد منها أو أكثر في كل حيَ.