روضة الصائم

الدعاوى الحدية « 1 »

16 مايو 2019
16 مايو 2019

فضيلة الشيخ زهران بن ناصر البراشدي -

قاضي المحكمــــة العــليا -

وأما الدعاوى الحدية فقد ورد الخلاف في سقوط الحد وعدم سماع الدعوى بالتقادم هل تسمع الدعوى مهما طالت المدة أم لا؟ والذي تدل عليه الآثار عدم إقامة الحد على مرتكب الجريمة الحدية إذا ورد البلاغ بعد مدة زمنية يمكن إقامة الحد فيها ولم تقم الدعوى في حينها وذلك لوجود الشبهة والحدود تدرأ بالشبهات وهذا الأثر عن أميرِ المؤمنين عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه يدل على ذلك ويوضحه، وهو كما ترى:-

عَن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ «أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ وَلَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضِغْنٍ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ»

يَعْنِي أَيُّ قَوْمٍ وَمَا صِلَةٌ كَمَا فِي قوله تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) 159 آل عمران. وَقَوْلُهُ: شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ وَلَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ. أَيْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَو امرَأَةٍ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ حَالَ مَا وَقَعَ، بَلْ تَقَادَمَ العَهدُ ثُمَّ شَهِدُوا فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضِغْنٍ، أَيْ: كَانُوا مُخَيَّرِينَ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ بَيْنَ أَنْ يَسْتُرُوا عَلَيْهِ فَلَا يَشْهَدُوا وَبَيْنَ أَنْ يَحْتَسِبُوا فَيَشْهَدُوا؛ لِيُقَامَ حَدُّ الشَّرْعِ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدُوا دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ اخْتَارُوا جَانِبَ السِّتْرِ فَلَمَّا شَهِدُوا بَعْدَ زَمَانٍ فَإِنَّمَا هَاجَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حِقْدٌ فَلَمْ يَكُنْ عَنْ حِسْبَةٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ أَيْ لَا قَبُولَ لِشَهَادَتِهِمْ.»

قلت: لأن الضغن والعداوة وصمتان مؤثرتان في العدالة ومن كان بينه والمشهود عليه حقد أو عداوة فلا تقبل شهادته عليه باتفاق أهل العلم في الحقوق وفي الحدود أورث ذلك شبهة قوية والحدود تدرأ بالشبهات فعدم قبولها من باب أولى، فليتنبه لذلك جيدا فإنه مزلة أقدام.

ومعنى ذلك: ألا تمضي مدةٌ بين مشاهدة الجريمة وأداء الشهادة، منعاً من التهمة وإثارة الفتنة؛ إذ أنَّ أداء الشهادة بعد مضي مدة من الزمن يتمكن معها الشاهد من أداء شهادته من غير عذرٍ ظاهرٍ يدل على أن الضغينة هي الحاملة له على الشهادة، كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه «أيما قوم شهدوا على حد، ولم يشهدوا عند حضرته، فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم.» وانظر: الجزء الثاني من أثر القواعد الفقهية في التطبيق. للباحث، تحت عنوان: «الفرع الخامس تقادم الدعوى الحدية» ص335.

تطبيقات: إنسان قال لغيره: إن الناس يشرون مالك هذا بألفي درهم فلم لا تبيعه؟ فقال له صاحب المال: بعته لك بألف درهم فقال المشتري: اشتريته بها، صح البيع. - وإن اختلفا فقال البائع أردت الهزل وأنكر المشتري الهزل فالقول قول المشتري؛ لأن الأصل في المعاملات الجد لا الهزل وإن كان المشتري أعطاه شيئاً من الثمن وأخذه ثم ادعى الهزل فلا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن قبض الثمن علامة الجد.

- أما إذا تواضعا على الهزل كما لو باع أو اشترى وهو هازل، وكان كل واحد منهما يعلم نية الآخر وتقاررا على ذلك فالقول قول البائع بدليل التقارر بينهما.

بيانه: لو قال إنسان لآخر: نُظهر عند الناس البيع - في كذا - ونحن لا نريد ذلك، وإنما نريد الهزل ليُظنّ أنه بيع، فإذا تواضعا على ذلك انهدم ذلك البيع، إلا إذا أعرضا عن الهزل وقصدا في البيع إلى الجدّ؛ فإنه يكون البيع صحيحًا، وكذا سائر المعاملات هذا فيما بينهم.

- أمّا لو ترافعا إلى الحاكم، وطلب أحدهما ثبوت البيع، وطلب الآخر نقضه فإن تقاررا بالهزل وعدم الإعراض عنه حُكِمَ بفساد البيع، وإن لم يتقاررا بالهزل بل ادَّعاه بعضهم وأنكره الآخر؛ كان على من ادّعى الهزل البينة؛ لأنه مدّع فساد البيع الصحيح في الظاهر.

وإن تقاررا بالهزل لكن ادّعى أحدهما الإعراض عنه إلى الجدّ؛ كان على من ادعى الإعراض البيّنة؛ لأنه يدّعي صحة البيع الفاسد في الظاهر.

وكذا الكلام في تحديد بدل الأشياء من قيمة وعوض وصدقات نساء ونفقات وغيرها إن اختلفا سرا وعلانية أي حددا شيئا في السر وأعلنا بخلافه واختلفا بعد.

فمثلا إذا اتفقا في السر على مهر وسميا في العلانية أكثر منه لأجل السمعة أو العكس كأن يعلنوا الأقل ويبطنوا الأكثر هل يؤخذ بالسر أو بالعلانية فالخلاف.

قال في المبسوط: « البدل كالقسمة والإجارة والكتابة في ذلك قياس البيع. وكذلك هذا في الخلع والطلاق والعتاق بجعل لأن البدل في هذه العقود لا يجب بدون التسمية فلو أعملنا الهزل في المسمى لوقع الطلاق والعتاق بغير جعل ولم يوجد منهما الرضا بذلك فلهذا صححنا ذلك بالمسمى فيه بخلاف النكاح فهناك وإن جعلنا ما سميا في العقد هزلا انعقد النكاح بينهما مواضعة بمهر المثل فلهذا اعتبرنا المواضعة في المنع من وجوب المسمى في العقد. يوضحه أن في الطلاق بجعل لا بد من وقوع أصل الطلاق لقصدهما الجد فيه فلو لم يجب ما سمينا من البدل فيه كان الطلاق رجعيا ولا وجه لذلك مع وجود تسمية البدل فلهذا أوجبنا المال عليها وجعلنا الطلاق ثابتا.

ولو كانوا عقدوا البيع، أو الطلاق، أو العتاق أو النكاح، أو الإجارة على ما كانوا تواضعوا عليه في السر ثم أظهروا شيئا غير ذلك، وادعى أحدهم السر ، وأقام عليه البينة، وادعى الآخر العلانية، وأقام عليها البينة أخذ بالعلانية، وأبطل السر؛ لأن بينة العلانية دافعة لدعوى مدعي السر ، فإنها تثبت إقدامه في العلانية على ما شهدت به، وذلك يمنع منه دعوى شيء آخر بخلافه في السر، أو يجعل هذا الثاني ناسخا للأول عند المعارضة؛ لأن البينة لا توجب شيئا بدون القضاء إلا أن يشهد الشهود أنهم قالوا في السر إنا نشهد بذلك في العلانية بسمعه، فإن شهدوا بذلك على الولي الذي زوج، أو على المرأة أو على الذي ولي ما ادعى من العلانية أخذت بينة أصحاب السر، وأبطلت العلانية؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت بالعلانية، أو باتفاق الخصوم، وبهذه البينة ثبت أن الإشهاد في العلانية كان تحقيقا لما كان بينهما في السر لا فسخا لذلك بخلاف الأول.