الملف السياسي

من حادث عارض إلى تهديد أمني واقتصادي

13 مايو 2019
13 مايو 2019

يسرا الشرقاوي -

في منتصف العام الماضي 2018، نشرت هيئة «هيلث كاير ريدي» الأمريكية بالتعاون مع شركة «يوجوف» الدولية لإجراء استطلاعات الرأي نتائج استطلاع قومي يؤكد توافق أغلبية مواطني أمريكا للعام الثالث على التوالي بشأن اعتبار «الكوارث الطبيعية» مصدر أساسي لتهديد أمنهم واستقرارهم. واللافت أن الاستطلاع ذاته والذي أجري بمشاركة حوالي 1300 أمريكي، صنف «الكوارث الطبيعية» كتهديد يتفوق على الإرهاب وانتشار الأوبئة والهجمات الإلكترونية.

فوفقا لذلك الاستطلاع أكد 33% من العينة المشاركة أن «الكوارث الطبيعية»، مثل الفيضانات والأعاصير والحرائق الضخمة تشكل المصدر الأول للتهديد بالنسبة لهم. فيما اعتبر 15% من المشاركين أن الاعتداءات الإرهابية تعتبر التهديد الأكثر إثارة لمخاوفهم. واللافت أيضا أن عند سؤال العينة المشاركة من المواطنين الأمريكيين حول تقديرهم حول مدة كفاية الموارد والتمويل اللازم للجهات والهيئات المعنية للتعامل مع «الكوارث الطبيعية» وتأهيل المجتمعات المحلية لمواجهتها والتعافي من أثارها، لم تزد نسبة الأمريكيين الذين يرون أن مستويات التمويل كافية وفعالة على 32%.

نتائج الاستطلاع الأمريكي تبدو بالغة الأهمية إذا ما تم مراجعتها جنبا إلى جنب مع ما تجمع عليه مختلف التقديرات العلمية من أن ظاهرة التغييرات المناخية تحولت إلى «تهديد أمني» وشيك بالنسبة لمختلف الدول والشعوب. وذلك لأن نتائج التصاعد في التغييرات المناخية سيكون له عدة تبعات من أهمها: تزايد احتمالية الصراعات والنزاعات على المستويات: الأهلي والإقليمي والدولي بسبب الندرة المتنامية بالنسبة للموارد الطبيعية. وكذلك حدة التحولات في السمات البيئية والتي سيترتب عليها من ضمن ما يترتب زيادة في الكوارث الطبيعية التي تضرب الأرض، وذلك من حيث تعداد الوقائع وحدة تبعاتها. فقد أكدت التقارير الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، أن تعداد الكوارث الطبيعية تضاعفت في السنوات العشرين الأخيرة. وربطت هذه التقارير بشكل مباشر ما بين هذا التضاعف واستفحال ظاهرة التغيرات المناخية.

ويبدو ذلك السيناريو شبه المؤكد شديد السوداوية، خاصة إذا تمت مراجعة الخبرة الإنسانية مع «الكوارث الطبيعية»، وما أحدثته من تأثيرات سياسية واقتصادية، وبالطبع، اجتماعية واسعة بالمجتمعات التي ضربتها ضربا. فوفقا لتقدير صدر عن شركة «ميونيخ ري»، أحد أكبر شركات التأمين ذات الصيت والسطوة الدولية، فإن 2018 كان رابع «أغلى» عام تاريخيا فيما يتعلق بتكلفة الخسائر المترتبة على الكوارث الطبيعية. وأوضح التقرير أن تكلفة الكوارث الطبيعية في العام الماضي بلغت 160 مليار دولار، وأن نصف هذه الخسائر وردت بقطاعات لم تكن خاضعة لاتفاقيات تأمين.

ويشرح التقرير أن الكوارث التي كانت صاحبة أعلى معدلات التدمير وبالتالي، أعلى معدلات الخسائر والتكلفة الاقتصادية، كانت بالولايات المتحدة، وتحديدا فيما يتعلق بما شاهدته من أعاصير ميتشيل وفلورانس، وحرائق كاليفورنيا، وكذلك ما بالقارة الآسيوية التي عايشت أعاصير جيبي وترامي. فبخلاف الخسائر في الأرواح، يترتب على الكوارث الطبيعية أضرار واسعة تصل إلى مستويات التدمير الشامل بالنسبة للبنية التحتية في المجتمعات التي تضربها. كما أن تأثيرها على معدلات الإنتاجية بتلك المجتمعات يظل واضح لعقود تالية، خاصة مع خسارة جانب من العناصر الفاعلة بالمجتمعات المتضررة جراء ضربة الكارثة الطبيعية. ويضاف إلى ذلك الأزمات الصحية والنفسية التي تعانيها في الأغلب فئة الناجين.

توضح الخبرة الدولية أن الخسائر المترتبة على الكوارث الطبيعية يمكن أن تتجاوز مختلف التقديرات المحددة سلفا. فمن أبرز النماذج ما أحدثه زلزال وموجة التسونامي التي ضربت اليابان عام 2011 واعتبرت في وقتها خامس أقوى زلزال يتم تسجيله دوليا. كارثة اليابان كلفت اقتصادها خسائر بقيمة 360 مليار دولار تقريبا، وهي مجرد الخسائر المبدئية. فقد تأثر القطاع النووي الياباني في أعقاب ما ألحقته أحداث 2011 من أضرار بمفاعل فوكوشيما النووي، والتي بلغت حد وقوع تسريب إشعاعي وصلت أثاره إلى مياه الشرب في طوكيو. وتم تأكيد إدراج كارثة فوكوشيما في ذات فئة كارثة مفاعل تشيرنوبل النووي. بعدها تم إغلاق عدد من مفاعلات اليابان النووية وتراجعت قدرتها على إنتاج الكهرباء بمقدار 40%، مما أثر إجمالا على القطاع الصناعي وتسبب في تنامي معدلات الاستيراد طلبا لموارد الطاقة التقليدية مثل البترول. وقبل وبعد ما سبق من خسائر، كان تعداد قتلى كارثة اليابان والذي بلغ 28 ألف قتيل ونصف مليون نازح.

أما ثاني أبرز النماذج في الذاكرة المعاصرة، فيتعلق بإعصار كاترينا الذي ضرب ولاية لاويزيانا الأمريكية عام 2005. وكانت كاترينا إعصار من الدرجة الخامسة وتم اعتباره الكارثة الطبيعية الأكثر تدميرا في تاريخ الولايات المتحدة. فقد طالت بتأثيرها مساحة شاسعة تقدر بحوالي 93 ألف ميل مربع. ووفقا للتقديرات الرسمية، فإن كاترينا أحدثت خسائر تقدر بحوالي 125 مليار دولار، ولكن تقديرات إجمالي الخسائر، متضمنة الشق الاقتصادي ترفع مستوى خسائر كاترينا إلى 215 مليار دولار. فقد تسبب الإعصار الشهير في تدمير 19% من إجمالي القدرات الإنتاجية بقطاع البترول الأمريكي. فقد دمر الإعصار وما تلاه من إعصار ريتا حوالي 113 منصة بترول وغاز بحرية، فضلا عن تدمير حوالي 460 خط غاز وبترول. وأثر ذلك كله على أسعار الغاز والوقود محليا.

أما الخسائر البشرية، فقد تسببت كاترينا في نزوح نحو 800 ألف أمريكي، بمعدل أعلى من الذي شهدته الولايات المتحدة خلال موجة النزوح التي تزامنت مع أزمة الكساد الكبير. وكانت كاترينا وراء مقتل أكثر من 1800 أمريكي، أكثر من 70% منهم من كبار السن.

من الضربات القاتلة التي وجهتها الطبيعة للهيكل الاقتصادي والاجتماعي والإنساني كان زلزال هايتي الذي بلغت قوته 7.3 درجة على مقياس ريختر عام 2010. الزلزال المدمر قضى على حياة ما يتراوح بين 200 و250 ألف مواطن، وذلك ما يوازي 2% من إجمالي تعداد سكان هايتي وقتها. ويضاف إلى ذلك ما خلفه الزلزال من 300 ألف مصابين بإصابات متفاوتة، فضلا عن نزوح حوالي 1.5 مليون نسمة. وتؤكد التقديرات أن الزلزال القياسي أثر على إجمالي 20% من تعداد سكان هايتي، حتى أن بعض النازحين بسببه استمروا على حياتهم بمعسكرات الإيواء العاجل التي تم إعدادها وقتها، لتدمير منازلهم ومحيطهم السكني وصعوبة عودتهم إليه.

أما بالنسبة للخسائر الاقتصادية، فإن بنك التنمية بين الأمريكيتين أكد وقتها أن حجم الخسائر الاقتصادية يصل إلى حاجز الــ 8.5 مليار دولار، مع تصاعد للتبعات الاقتصادية على مدار السنوات اللاحقة والتي بلغت 13.9 مليار دولار. وتسبب الزلزال الشهير وقتها في تراجع إجمالي الناتج القومي لهايتي بمقدار قياسي بلغ 5.1%. ولا تعد هذه نتائج مبالغ فيها، خاصة وأن الزلزال أضر بالمطار الرئيسي بالبلاد وأغلب الموانئ البحرية ووجه ضربة موجعة لشبكة الطرق والمواصلات بالبلد، حتى أن التعافي من هذه الضربة استلزم سنوات وسنوات من الاستثمار والعمل.

هذه التقديرات لحالها تبدو سلبية، إن لم تكن مرعبة. ولكن ما يزيد وقعها أنها تشكل مجرد البداية أو «البروفة» لمزيد من الكوارث الطبيعية التي تجمع مختلف التقديرات على أنها في سبيلها الأكيد للزيادة سبب ظاهرة التغييرات المناخية. ويصعب الجدل بأن قدرا من الاستعداد قد يحد من الخسائر والتبعات، خاصة وأن سطوة وقسوة الكارثة الوشيكة يمكن تقديرها، حيث تتفاعل مع عدة عوامل منها جهوزية المجتمعات المستهدفة، ومفارقات السلوك الإنساني في وقت الصدمة، وعدد آخر من العوامل التي يصعب حصرها.