4444
4444
روضة الصائم

الـغـزل.. أوصـى الرسـول به الــنـسـاء لتـعـلـمـه

10 مايو 2019
10 مايو 2019

اعداد :حمادة السعيد -

هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ مشكلة البحث عن العمل لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها فلقد حث الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.

ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي حرفة «الغزل».

لقد وردت حرفة الغزل في القرآن الكريم ضمنيا وقد جاءت للمثل والتشبيه وجاء ذلك في سورة النحل في قوله تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» النحل.

يقول الإمام الطبري في تفسيره المعروف بجامع البيان عن هذه الآية «عن قتادة، قوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده».

ويقول ابن عجيبة في تفسيره المعروف بالبحر المديد في تفسير القرآن المجيد عن هذه الآية «ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غزلها» : أفسدته «من بعد قوة» أي: إبرام وإحكام؛ «أنكاثًا» أي: طاقات، أي: صيرته طاقات كما كان قبل الغزل، بحيث حلت إحكامه وإبرامه، حتى صار كما كان، والمراد: تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه، وقيل: هي «ريطة بنت سعد القرشية»؛ فإنها كانت خرقاء - أي: حمقاء - تغزل طول يومها ثم تنقضه، فكانت العرب تضرب به المثل لمن قال ولم يُوف، أو حلف ولم يَبر في يمينه».

ويقول الطاهر بن عاشور في تفسيره المعروف بالتحرير والتنوير «نُهوا عن أن يكونوا مَضْرِب مثل معروف في العرب بالاستهزاء، وهو المرأة التي تَنقض غزلها بعد شَدّ فتله، وقد ذُكر من قصّتها أنها كانت امرأة خرقاء مختلّة العقل، ولها جوارٍ، وقد اتّخذت مِغْزلاً قدر ذراع وصِنّارَة مثل أصبع وَفَلْكَةً عظيمة على قدر ذلك، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته، وهكذا تفعل كل يوم ، فكان حالها إفساد ما كان نافعا محكما من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية، ووجه الشّبه الرجوع إلى فساد بعد التلبّس بصلاح.

والغَزل: فتل نتف من الصوف أو الشعر لتُجعل خيوطاً محكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغَزل بحيث تلتفّ النتف المفتولة باليد فتصير خيطا غليظا طويلا بقدر الحاجة ليكون سَدًى أو لُحْمَة للنسج.

والقوة: إحكام الغزل، أي نقضته مع كونه محكم الفتل لا موجب لنقضه، فإنه لو كان فتله غير محكم لكان عذرٌ لنقضه، والأنكاث بفتح الهمزة: جمع نِكْث بكسر النّون وسكون الكاف أي منكوث، أي منقوض، والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلاً واحدا جعلتْه منقوضا، أي خيوطاً عديدة، وذلك بأن صيّرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطاً ذات عدد.

ويقول محمد الأمين في تفسيره المعروف بحدائق الروح والريحان «أمر الله تعالى بوجوب الوفاء وتحريم النقض مع ضرب المثل فقال: }ولا تكونوا{ أيها المؤمنون في نقض العهد }كالتي{؛ أي: كالمرأة التي }نقضت{؛ أي: حلت وفكت، }غزلها{؛ أي: مغزولها؛ أي: ما غزلته وفتلته من صوف وقطن وغيرهما، }من بعد قوة{ أي: حلته وفكته من بعد إبرام ذلك الغزل وإحكامه، فجعلته }أنكاثا{ والمعنى جعلته طاقات نكثت فتلها؛ أي: ولا تكونوا أيها المؤمنون في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم ربكم العهود والمواثيق كمن تنقض غزلها بعد إبرامه، وتنفشه بعد أن جعلته طاقات، حماقة منها وجهلا. وقال مقاتل بن سليمان: هي ريطة بنت عمرو بن سعد، وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسة، وكانت قد اتخذت مغزلا قدر ذراع، وسنارة مثل الأصبع -وهي بكسر السين- الحديدة في رأس المغزل، وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر أو الوبر، وتأمر جواريها بالغزل، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلت، فكان هذا دأبها، والمعنى: إن هذه المرأة لم تكف عن العمل، ولا حين عملت كفت عن النقض، فكذلك من نقض العهد، لا تركه ولا حين عاهد وفى. والخلاصة: أنه تعالى شبه حال الناقض للعهد بحال من تنقض غزلها بعد فتله وإبرامه، تحذيرا للمخاطبين وتنبيها إلى أن هذا ليس من فعل العقلاء، وصاحبه في زمرة الحمقى من النساء، أي: ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها، حالة كونكم تجعلون أيمانكم - التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتم - خديعة وغرورا، ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد، والنقلة إلى غيرهم من أجل أنهم أكثر منهم عددا وعدة وأعز نفرا، بل عليكم بالوفاء بالعهود والمحافظة عليها في كل حال.

قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعز نفرا، فينقضون حلف هؤلاء، ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز نفرا، فنهوا عن ذلك.

وأما في السنة النبوية فقد رغبت في تعليم النساء الغزل فقد ورد في كتاب الفوائد لتمام بن محمد البجلي (المتوفى: 414هـ) بسنده عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عودوا نساءكم المغزل، فإنه أزين لهن وأرزن».

هكذا ذكر القرآن هذه الحرفة في آياته وإن كان ذكرها للمثل وهكذا وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء على تعلم هذه الحرفة.

فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما وكفى بصاحب الحرفة فخرا أن أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرسل كانوا يأكلون من عمل يدهم وقد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.