روضة الصائم

الوحي مصدر الأحكام

09 مايو 2019
09 مايو 2019

د. مريم بنت سعيد العزرية - باحثة شؤون إسلامية -

أنزل الله تعالى العالِم بمكنونات النفس الإنسانية أنوار الوحي لتكون علامات يهتدي بها البشر إلى الحقائق الغائبة المعرفية الكبرى التي أوجد الإنسان لأجلها، فتنير عقله وتسكن روحه وتعزز يقينه وتحمي قلبه من لهيب الشكوك والشبهات. قال تعالى: ﴿قَدۡ جَاءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُور وَكِتَٰب مُّبِين ١٥﴾المائدة:15. والوحي هو الصلة بين الغيب والشهادة، والمعبر عن أوامر الخالق سبحانه ومراده، به نستوعب التشريعات ونفهم متطلبات تحقيق العبودية لله تعالى، وإليه نتحاكم في كل صغيرة وكبيرة.

فإن الإسلام وحي معجز خالد تميز بوضوح العقيدة والهدف والمنهج واتصف بكل صفات السمو والكمال الخلقي والعقلي والنفسي؛ لأنه ينبع من حقيقة واحدة وهو أن القرآن وحي وأن محمد نبي مرسل من عند الله تعالى وما جاء به وحي معجز أيضا. قال تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡي يُوحَىٰ ٤﴾[النجم:3-4]

ويعرف العلماء الحكم الشرعي بأنه أثر خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، فالحكم إذن مصدره الوحي فقط فلا يجوز الاعتداد بأي اجتهاد لا يعود في أصله إليه، والفقهاء هم مجرد وسيلة مبينة حكم الله من خلال استنباطه من نصوص الشرع وأصوله الكلية وليسوا مشرعين بمحض عقولهم.

والأحكام الشرعية تنقسم إلى نوعين: منها مسائل الدين القطعية التي يحرم القول فيها إلا بما نص عليه الدليل الثابت بالقرآن أو السنة المتواترة، ودلائلها على الحكم دلالة صريحة قاطعة لا تقبل التأويل أو الاحتمال، وهي الأصول والثوابت الشرعية، والمتعلقة بالعقيدة أو الإيمان وأصول العبادات والمقدرات من الكفارات والزكوات والحدود وفرائض الإرث، وبالمحرمات اليقينية كقتل النفس والربا ونحوه، أو ما يتعلق بفضائل الأعمال وأصول المعاملات وقواعد الأخلاق. وهذه الأحكام لا تتغير بمرور الزمان ولا بتغير المكان أو، الأحوال ولكن يدخل التغيير عليها أحيانا، ولكنه لا يمس الحكم من حيث هو وإنما بسبب ما التبس بها، مما يتعلق بالمكلف أو بالشروط الخارجية أو بعلته وأسبابه؛ فالحكم لازم لعلته وسببه، ويجري معهما.

والقسم الثاني هو الأحكام الظنية، وهي ما فيها نص غير قطعي سواء في الثبوت أو الدلالة أو معا، أو هو الذي يدل على معناه مع احتمال التأويل، أو ما لا نص فيه أصلا ولا إجماع، لكن يتحصل بالاجتهاد في إطار مقاصد الشريعة وأصولها وقواعدها الكلية، كالقياس أو المصالح المرسلة أو العرف ونحوها من أدلة الاستدلال. وهي الأحكام القابلة للتغيير حسب الزمان والمكان والأعراف والعادات، لوجود مبرر شرعي وحاجة تدعو لإعادة النظر في علل الأحكام، ومن ثم تتغير تبعا لتغيرها؛ مراعاة لمصالح العباد وفق أصول وقواعد ترجح على ما سبق الحكم به، مما يؤدي إلى تحقيق مرونة الشريعة الإسلامية وشموليتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

وعليه فإن الأحكام الشرعية إنما تناط باليقين والظنون الغالبة التي تدل عليها الأدلة الشرعية الخاصة والعامة، ولا يلتفت فيها إلى الظنون البعيدة والأوهام والتخيلات؛ فإن القانون الإلهي عموما لا يخضع لاختراعات العقل وهواه؛ فإن معايير العقل متباينة ومتغيرة بناءً على عوامل مختلفة كثيرة ومؤثرة، وهو قاصر عن إدراك عالم الغيب وتقرير المصالح الحقيقية والشرعية، وإن اهتدى إلى مصالح لم يشهد لها نص معين عليها فإنه لا بد أن تكون موافقة لأصول الشرع وشاهدة عليها؛ وذلك لأن التشريع الإسلامي قد جاء لتحقيق مصالح العباد وجعلها كامنة في نصوصه وأحكامه، وعلى المجتهد أن يستنبطها ويكتشفها ولكن ليس له أن يبتدع المصالح التي لا أصل شرعي لها، وإن استجدت مصالح مسكوت عنها فيكون الشرع مرجع تقويمها وميزان تقديرها لا محض العقول ومجرد الأهواء، فإن العقل قد يدرك أن في الشيء مصلحة أو فيه مفسدة، لكن ليس له أن يثبت الحكم للشيء، فيرتب عليه الثواب أو العقاب مهما بلغ من الكمال، فإنما ذلك خاص بالشرع فقط، والعقل آلة لفهم خطاب الشرع.

وعليه يلزم مراعاة العقل وخطاب الشرع معا في تقدير مصالح الشرع ومقاصده؛ فإن الأدلة العقلية الصحيحة البينة التي لا ريب فيها -بل العلوم الفطرية الضرورية- توافق ما أخبرت به الرسل لا تخالفه؛ بل إن دورهما متكامل في فهم خطاب الشرع لا يُستغنى بأحدهما عن الآخر. فالوحي لا يستقيم فهمه إلا في آفاق العقل السليم، والعقل لا يمكن أن ينفرد على محدوديته وقصوره بتشريع ولا تقدير مصلحة أو مفسدة، فلا بد من أن ينضبط بحدود الشرع ولا يجاوزها، وإن تعطيل طاقة العقل في استلهام مقاصد الشرع يجعل الإنسان أسير الظواهر الشكلية التي تحول بينه وبين إدراك مضامين الشرع وهدايته، ويوقعه في تناقضات غريبة تسوقه إلى المتشابهات. وكذلك الإفراط في تقدير العقل والتعويل المطلق عليه في مجال التشريع وتقدير المصالح يؤدي إلى حصر وظيفة الشرع في بيان مضامين العقل أو توكيدها، مما يفضي إلى الاضطراب والتيه في فهم الشرع.

وحاصل القول أن الوحي هو مصدر الأحكام الشرعية لا العقل والأهواء، والوحي جاء ضابطا للعقل كما أن العقل هو ضابط للنفس الإنسانية؛ ولذا فإن الأحكام الشرعية تتميز بأصالتها وربانيتها وتوازنها وواقعيتها ويسرها وثباتها وسلامتها من الزلل وصلاحيتها لكل زمان ومكان وعمومها لكل الناس، وبهذا يتأكد لنا أنه من العبث مناقشة فروع الشريعة الإسلامية دون التسليم بأنها الدين الحق المعجز، ولا مناص قبل مناقشة الشبهات حوله بالتأسيس على أنه الأصل وحده. وعليه لا يصح نبذ تلك الأحكام الشرعية الثابتة والخروج عنها بدعوى أنها ليست إلا تقاليد قديمة موروثة أو أن نصوصها هي عبارات تاريخية لا تصلح لغير زمانها، فيضيق الناس بها ذرعا مع مر الزمان مع ما فيه من تطور وتقدم جديد.