1214194
1214194
المنوعات

«نفائس المخطوطات العمانية» تكشف بعضا من ملامح الحضارة العمانية

07 مايو 2019
07 مايو 2019

في كل فنون المعرفة وأقدمها عمره 900 سنة -

عمان بها أقدم نظام سياسي قائم في العالم وله تنظيراته المكتوبة -

عاصم الشيدي -

أول سؤال خطر في بالي وأنا أخطو خطوة أولى إلى داخل معرض نفائس المخطوطات العمانية المقام في متحف السيد فيصل بن علي بوزارة التراث والثقافة كان سؤال الحضارة. أليست عمان حضارة كبرى متكاملة بين الحضارات التي أنتجها الإنسان؟ ورحت أستعرض بيني وبين نفسي بعض عناصر الحضارة: فإذا كانت النُظم السياسية بين أهم عناصر الحضارة ففي عُمان أحد أقدم النُّظم السياسية في العالم، نظام سياسي يمتد إلى قرابة 2000 سنة دون انقطاع تقريبا، ورغم ما شهدته المنطقة من متغيرات وانقلابات حضارية بقي النظام السياسي العماني ثابتا ومحافظا على كيانه ويبني لاحقه على سابقه وفق فعل تراكمي، ويلقى الاعتراف والهيبة من الكيانات السياسية التي تشكلت إلى جواره أو حتى من الكيانات التي أرادت السيطرة عليه لكنها فشلت ولم تجد بدا من احترامه. وتبلور النظام السياسي في عُمان ووجد من ينظر له، وهو اليوم من بين النظم السياسية القليلة في العالم وربما الوحيد الممتد كل هذه القرون وبتنظيرات سياسية واضحة المعالم تماما.

ومن بين عناصر الحضارة القيم التي لا يصعب رصدها في عُمان، هي قيم إنسانية راسخة في الإنسان العماني، وإذا كان لكل حضارة قيمها فإن قيم الحضارة العمانية إنسانية الطابع عمقّها الإسلام وأكد عليها وحافظ عليها العمانيون طويلا ولا مبالغة إن قال البعض إنها صارت في جيناتهم ومعروفون بها.

وكنت في وسط المعرض عندما سألت نفسي: أليست هذه المخطوطات النادرة من بين أهم عناصر الحضارة العمانية بل والعناصر التي شكلت عموم الحضارة الإنسانية؟! لم تكن الإجابة على هذا السؤال تحتاج كثير تفكير. وفي الحقيقة لا تحتاج وأنت في عُمان للتفكير كثيرا لمعرفة معالم وعناصر الحضارة. فأينما وليت تجد معالمها بارزة ومتراكمة عبر الأزمنة، وإن كانت مرت بفترات صعود وهبوط فلأن هذا ديدن التاريخ وخط سير الحضارات الإنسانية.

وفي معرض «نفائس المخطوطات» الذي بتّ الآن في مواجهة كنوزه تستطيع أن تحصل على تأكيد كبير أنك وسط حضارة كبيرة وبمفردات متنوعة في كل فنون الإبداع الإنساني.

فهذه المخطوطات المعروضة تحاول اختصار المشهد الحضاري. فهي تغطي فنونا معرفية كثيرة.. بعضها في علم البحار وبعضها في علم الأسرار، وبعضها الآخر في التاريخ والأنساب وبعضها في الطب والتشريح وبعضها في الأدب والنحو وعلوم الدين والفقه، وهذه العلوم مجتمعة تشكل مفردات الحضارة التي نفخر بها ونفخر بالانتساب لها.

وليس بعيدا عن هذا المعرض تقع دار المخطوطات التي تضم أكثر من 5000 آلاف مخطوط عماني في كل صنوف المعرفة تقريبا. وهي عينة بسيطة جدا، وإلا فإن بعض الباحثين يقدرون عدد المخطوطات الموجودة في عمان سواء في حوزة المؤسسات الرسمية أو لدى الأفراد والمكتبات بأكثر من 40 ألف مخطوط هي في مجملها شاهدة على ما أنتجه الإنسان العماني في هذه الحضارة العريقة. أبدأ التجوال في المعرض بصحبة المرشد في المعرض مروان الحجري.

أول مخطوط يلاقيك وأنت تدخل إلى الداخل مخطوط «النونية الكبرى» للبحار العماني أحمد بن ماجد ويعود إلى القرنين 9 و 10 الهجريين. والمخطوط نسخة عن الأصل، والأصل موجود في دار المخطوطات أيضا. والمخطوط عبارة عن منظومة شعرية في علم البحار، يصف فيها المؤلف أصول علم البحار والطرق التجريبية وقياسات بعض النجوم وانتقالها في البروج، والمخطوط يكشف عبقرية البحار العماني في الغوص عميقا في علم البحار الذي تجتمع فيه علوم كثيرة فلكية وهندسية ورياضية «نسبة إلى علم الرياضيات». والكتاب منسوخ في عام 1157هـ لكنه مجهول الناسخ، حيث لم يرد فيه اسم الناسخ.

وإلى جوار مخطوط ابن ماجد يستكين بكثير من الهيبة أقدم مخطوط موجود في عُمان، ويعود عمره إلى 900 سنة. ويصنف باعتباره مخطوطا فقهيا، مجموع في السير والجوابات. نسخ المخطوط سنة 531هـ. وأهم محتوياته تعليق على كتاب المناهي لأبي مالك غسان بن محمد الحضر الصلاني وكتاب في الصلاة وجوابات فقهية نادرة لأبي عبدالله محمد بن محبوب ومسائل معين بن معين لأبي الحسن البسيوي وجوابات نادرة على أهل كلوة لأبي القاسم سعيد بن قريش العقري النزوي. والكتاب إضافة إلى أهمية مادته العلمية يعطي فكرة عن بداية الخطوط العمانية من حيث شكل الخط الذي كتب به. ويتضح من الكتاب أنّ ليس كل حروفه منقوطة.

وفي معرض نفائس المخطوطات يمكن للزائر أن يتعرف على مصحف القراءات السبع. وهو مصحف نادر الإبداع، خط بيد الخطاط العماني الصحاري المشهور عبدالله بن بشير بن مسعود الحضرمي والذي فرغ من كتابته سنة 1153هـ. والمصحف منسقة صفحاته وأسطره بطريقة بارعة، إذ تحتوي الصفحة الواحدة منه على خمسة عشر سطرا، ويستخدم الخطاط الفن التناظري التقابلي إذ إن الحرف الأول الذي يبدأ به السطر الأول هو الحرف نفسه الذي يبدأ به السطر الأخير من الصفحة، كما أن أول حرف في السطر الثاني من أعلى الصفحة هو أول حرف من السطر الثاني من أسفلها وهكذا بقية الأسطر. وزين المصحف على هوامشه بكتابة القراءات السبع. وصفحات المصحف جميلة مزينة ويستخدم اللون الأحمر في كتابة لفظ الجلالة. وفي المعرض أيضا مصحف آخر مخطوط ومزخرف يعود لسنة 1263هـ أوقفته خادمة السيد سعيد بن سلطان في مسجد آل بوسعيد في زنجبار، والمصحف منسوخ سنة 1210هـ. ويتميز بجماله الباذخ وعناية الناسخ بالسطر الأول والأوسط والأخير حيث خطها بخط الثلث وبحجم أكبر من حجم بقية الأسطر. ويحضر اللون الأحمر في المصحف بشكل كبير سواء في بناء زخارفه أو كتابة بعض خطوطه.

ويجد الزائر أيضا مخطوطا طبيا من مؤلفات الطبيب العماني راشد بن عمير بن ثاني الهاشمي عاش في القرنين «10هـ و11هـ» ويشتمل المخطوط على مواضيع طبية مختلفة منها أرجوزة تفصيل مراحل عمر الإنسان، وقصيدة دالية في تشريح جسد الإنسان ورسالة في الكي بالنار وغيرها من المواضيع. وفي هذا المخطوط تشريح كامل للدماغ وللعين.

وأخبرني مروان الحجري المشرف على المعرض أن طبيبا ألمانيا زار المعرض وتملكه العجب كيف استطاع هذا الطبيب أن يسبق العلم الحديث في وضع تشريح مفصل للعين والدماغ.

وفي المعرض مخطوط لخطبة العيدين على شكل مطوية طويلة طولها 6 أمتار. ومخطوط خطبة عيد الأضحى منسوخ سنة 1296هـ بيد الناسح المعروف ناجم بن سويلم المشرفي، أما مخطوط صلاة عيد الفطر فمنسوخ سنة 1321 بيد الناسخ عبدالله بن ماجد بن خميس العبري. والمخطوطان تبدو فيهما فخامة الخط والزخرفة الجميلة إضافة إلى جمال الخطبة نفسها.

ومن بين المخطوطات النادرة المعروضة مخطوط لكتاب «بيان الشرع» لمؤلفه محمد بن إبراهيم الكندي «ق 6» والجزء المعروض هو الجزء «54» وهذا الجزء وفق ما يشير مروان الحجري أجمل الأجزاء من حيث الزخرفة خاصة صفحة العنوان وهي عبارة عن دائرة مزخرفة محاطة بأبيات شعرية نسخه أحمد بن علي بن أحمد السمائلي سنة 1145هـ. لكن هذا الجزء أعيد سريعا إلى الترميم ووضع مكانه جزء آخر.

وتجد في المعرض «معجم الإبانة» وهو معجم في اللغة العربية من تأليف سلمة بن مسلم العوتبي الصحاري «ق 6 ـ7 هـ» وقد نسخه عبدالله بن عمر بن زياد بن أحمد بتاريخ 13 جمادى الأولى سنة 967هـ وبذلك يكون عمر المخطوط أكثر من 473 سنة.

ومعجم الإبانة من بين المعاجم المعروفة في اللغة وله مكانته بين كتب اللغة والأدب. ويعرض معرض «نفائس المخطوطات» كتبا لأوائل مطبوعات المطبعة السلطانية في زنجبار التي أنشأها السلطان برغش بن سعيد مثل كتاب «هميان الزاد» للشيخ محمد بن يوسف اطفيش، وأول كتاب عماني طبع في الهند وهو كتاب «لطائف الحكم في صدقات النعم» للشيخ الرباني سعيد بن خلفان الخليلي وطبع على نفقة الشيخ سالم بن محمد بن سالم في مطبعة «دت يرساد» في رمضان من عام 1309هـ. وأول كتاب طبع في اليابان وهو ديوان أبي الصوفي سعيد بن مسلم العماني المسكتي، وطبع على نفقة السلطان فيصل بن تركي بمدينة أوساكا سنة 1937 في دار الطباعة الإسلامية العربية.

وأول كتاب عماني طبع في القاهرة وهو كتاب نهضة الأعيان بحرية عمان للشيخ محمد الشيبة بن نور الدين السالمي وطبع بمطابع دار الكتاب العربي على نفقة سليمان وأحمد ابني المؤلف. وأول كتاب عماني طبع في دمشق «خلاصة الوسائل في ترتيب المسائل» للشيخ عيسى بن صالح الحارثي، طبع في دمشق على نفقة نجله صالح بن عيسى الحارثي.

وهناك أيضا نسخة من كتاب جوهر النظام: في علمي الأديان والأحكام للشيخ السالمي والكتاب مطبوع في مصر في شهر رجب من عام 1344هـ. وكتاب «تنزيه الأبصار في رحلة سلطان زنجبار» وقد جمعه زاهر بن سعيد الكاتب الأول في دار السلطان برغش. وطبع في مطبعة النحلة سنة 1878م وقد عني بطبع القس لويس صابنجي صاحب مطبعة النحلة.

والمعرض يحتوي على مجموعة منتقاة من نفائس المخطوطات العمانية التي تشعرك بعظمة التاريخ العمانية وما أبدعه الإنسان العماني في مختلف الفنون. أخرج من المعرض وأنا أشعر بالكثير من الفخر أن هذا النتاج المعرفي أنتجه إنسان عمان على مرّ العصور، وساهم فيه برفد الحضارة والثقافة الإنسانية. وأن هذا النتاج هو الذي يخلد الحضارة العمانية ويعلي من شأنها بعيدا عن أي ادعاءات أو مس بما أنتجه وأبدعه الأجداد.