1212915
1212915
روضة الصائم

حرف وصناعات - النجــارة

07 مايو 2019
07 مايو 2019

إعـــــــــداد: حمادة السعيد -

هناك حرف وصناعات كثيرة تحدث عنها القرآن، وبينها- رسول الله صلى الله عليه وسلم- صناعات وصى بها، وصناعات حذر منها. ومن خلال كلماتنا نتعرف على بعض الحرف والصناعات التي ذكرها الله في كتابه، وتحدث عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم، والتي تبنى المجتمع أو تهدمه، نتعرف عليها حتى نعمل على الارتقاء بمجتمعنا، وإعلاء حاضر أمتنا.

وهذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الانتباه إلى قضية مهمة في زمنِ مشكلة البحث عن العمل وهي توجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها فلقد حث الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.

ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي حرفة «النجارة».

لقد وردت حرفة النجارة في القرآن الكريم ضمنيا وجاء ذلك في سورة المؤمنون قال الله تبارك وتعالى: (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) (المؤمنون: 27) أما الأمر فلنبي الله نوح وذلك في قوله تعالى « فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) (المؤمنون: 27).

لقد صنع نبي الله نوح من الأخشاب سفينة والكل يتعجب منه ويسخر منه ويصف ربنا تبارك وتعالى ذلك في كتابه فيقول في سورة هود «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ» آية 38. أين سيذهب بهذه السفينة في هذه الصحراء ولكن العجب يزول لما نقرأ قول الله تبارك وتعالى في سورة القمر «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)» هنا علمنا السبب إنها وسيلة النجاة من هذا الطوفان المدمر.

يقول محمد الأمين في تفسيره المعروف بحدائق الروح والريحان عن سخرية قوم نوح من نبي الله النوح والتي جاءت في سورة هود» {كلما مرّ عليه}؛ أي: على نوح {ملأ من قومه}؛ أي: جماعة من كبراء قومه، {سخروا منه}؛ أي: سخر الملأ من نوح وعمله، واستهزؤوا به، وضحكوا منه، وتنادوا عليه ظنا منهم أنه أصيب بالهوس والجنون.

روي أنهم قالوا له: أتحولت نجارا بعد أن كنت نبيا، وليس ذلك بالغريب منهم، فإنه ما من أحد يسبق أهل عصره بما فوق عقولهم من قول أو فعل إلا سخروا منه قبل أن يكتب له النجاح.

وفي وجه سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة، فيقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا. والثاني: أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك، قالوا: يا نوح ما تصنع بها؟ قال: أمشي بها على الماء، فعجبوا من قوله، وسخروا به.

{قال} نوح مجيبا لهم عن سخريتهم {إن تسخروا} وتستهزئوا {منا} اليوم وتستجهلونا لرؤيتكم ما لا تتصورون له فائدة {فإنا نسخر منكم} اليوم لجهلكم بالله، وشرككم به وغدا حين ينزل بكم العذاب لكفركم {كما تسخرون} منا جزاء وفاقا؛ أي: إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع، فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر، والتعرض لسخط الله، وعذابه

فبفضل من الله أولا ثم بمهارة هذا النبي في حرفة النجارة نجا ونجا من معه من المؤمنين ويدل على مهارة صنعته في حرفة النجارة قوله تعالى في سورة هود (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) (هود:42).

ثم تصمت السماء عن المطر وتبتلع الأرض ماءها ليستقر هذا النبي النجار الماهر ومن معه فوق جبل الجودي كما قال تعالى:( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ويَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)) (هود:44) هذا النبي فخر لكل نجار يعمل بالنجارة أو لكل من يحاول تعلم النجارة ولولا أهمية هذه الحرفة وفائدتها للمجتمع ما تكلم القرآن عنها.

إنها نظرة القرآن لهذه الحرفة تقديرا منه بكل المعاني من احترام وتوقير وتعظيم شأن وتقدير فلولا النجار ما نجا المؤمنون وهم قلة من طوفان اجتاح الأرض بمن فيها وما عليها.

كذلك من الأنبياء الذين احترفوا حرفة النجارة نبي الله زكريا وذلك فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان زكريا -عليه السلام- نجارًا».

ولولا النجار ما كانت هناك حضارة في المجتمع فليتخيل كل منا مجتمعا بلا أثاث أيا كان نوعه سواء بسيطا كان أو باهظ الثمن على حسب المستخدم له؛ وليتأمل كل منا هذا الأثاث الموجود في بيوتنا والذي أتقنه من يحترف حرفة النجارة، كم مر من مراحل وكم من أشخاص قد جعل الله رزقهم الذي يرزقهم به من خلاله! فهناك أولا: الفلاح أو الزارع الذي يقوم بزراعة الأشجار التي تأتي منها الأخشاب فيأتي مَن يحرث الأرض ويأتي من يزرع، ثم الذي يقطع الخشب، ثم مَن يبيع له الفلاح الخشب الذي منه يصنع الأثاث، ثم آخر يعمل بتقشير الخشب فيحوله إلى خشب صالح للتشكيل، ثم مَن يبيع هذا الخشب، ويأتي النجار الذي يصنع الأثاث، ثم البائع للأثاث، سلسلة طويلة من العمال والصناع جعل الله رزقهم من هذا الخشب، وسبحان القائل في كتابه ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )(الذاريات: 58).

فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما وكفى بصاحب الحرفة فخرا أن أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرسل كانوا يأكلون من عمل يدهم وقد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.