1209240
1209240
المنوعات

القرآن الكريم في اللسانيات الحديثة

03 مايو 2019
03 مايو 2019

د.عبدالله بن خميس بن عبدالله المعولي -

سهّل للنقاد والأدباء تصنيف الكتابات اللسانية إلى شعر ونثر إلا أنّ التداخل بينهما وابتكار أصناف أدبية أخرى جعلت العلوم الإنسانية في تطور مستمر مستمدة ذلك من تطور العلوم التطبيقية وازدهارها وكان القرآن الكريم هو النوع الوحيد الّذي اختلف فيه الدارسون؛ في تصنيفه اللغوي إلى أي دائرة كبرى ينتمي وهو إذ يدافع بذاته عن عدم انتمائه لهذه التقسيمات في قوله « وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» الحاقة 43 42 إلّا أنّ الضرورة العلمية واللسانيات الحديثة لابدّ لها أن تقف مع هذه الظاهرة اللسانية وتضع آلية يمكن من خلالها الحكم على ثبوتها من عدمه.

من هنا يمكن أن نجد كثيرا ممن تناولوا القرآن الكريم ووصفوه وادحضوا حجة قائلهم بكلام لا يخرج عمّا هو مألوف من البشر وهو الدفاع عن المقدس والانتصار للموروث دون إثبات أو بيان فكري يتناسب مع الثورة العلمية الحديثة إذ لا يتعدى الحديث عن نقل الأثر أو الروايات الماضية لإثبات الحجة بينما نجد من كانوا قبلنا أخذوا مفهوم القرائن والحسابات والنقد من أجل الوصول إلى نتائج واستكشافات هامة في كلّ الميادين ومن أمثال ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي وفي اللسانيات الحديثة يمكننا أن نجد عالما فذا يعمل ويطور بعضا من ابتكارات الخليل استطاع أن يضع هذه الفكرة في مقياس تخيل الإنسان الناضج وتبيان حقيقتها وترك الحكم للجانب الإحصائي الّذي يقوم على الجهد الفاعل والمعاينة الدقيقة لنظام العربية وأسلوبها وأعني هنا فكرة إثبات ما أكده القرآن الكريم من تموضع أسلوبه في مكان آخر لا يمكن أن يصنف في الشعر أو النثر.

وهذا التساؤل مازال في عقول كثير ممن اهتم باللغة العربية خاصة وباللسانيات عامة واشتغل في الأسلوب اللغوي وحلل جوانبه التداولية وما وراء المعاني النظمية للنصوص الإبداعية وما مصطلح (الانتحال) في النقد الأدبي إلّا ظاهرة من ظواهر إثبات النصوص وكذا السرقات الأدبية وكتاب طه حسين في الشعر الجاهلي. كلّ ذلك والقارئ العماني متلهف لمعرفة ما هو جديد في ميدان الدراسات اللغوية والنظريات الداعية لإثبات النص وانتمائه اللغوي والأسلوبي.

وفي هذا المقال نقف مع دراسة أسلوبية للأستاذ الدكتور المختار كريّم من جامعة تونس في كتابه (الأسلوب والإحصاء) إذ يتناول العديد من القضايا اللغوية ويبرهن عليها بأدوات حديثة معتمدا على التطور العلمي الحديث من خلال الإحصاء ونظرياته التي ساهمت في إدارة كم هائل من الأرقام والتعاطي معها؛ لإبراز استنتاجات رائعة تقيس النصوص الأدبية وتضعها في مختبر البحث الأسلوبي مبتعدا عن النتائج الجاهزة المبنية على التأثير وأقوال ممن سبق ويبني نظريته على فكرة رائعة ابتكرها الخليل بن أحمد الفراهيدي وأسس عليها بناء المعجم اللغوي (العين) ثم العروض والموسيقى ألا وهي المنهج الرياضي.

في كتابه الّذي ذكرناه آنفا يفصل لنا الدكتور في الجزء النظري منه المنهج الرياضي الإحصائي في العروض ويقول:» هدفنا من تناول العروض العربية محدود بغايتنا المرسومة ضمنيا في عنوان الأطروحة « (الأسلوب والإحصاء. المختار كريّم ص 339) وهو المبدأ الّذي سار عليه في تأصيل علم لساني حديث بعيدا عن الدراسات المتكررة والتي تفضي إلى نتيجتين: إمّا طعنا في نظام الخليل واقتراح البديل أو الخروج بإضافات جديدة كما يذكر ذلك في كتابه، إنما بنى منهجه على طريقة أخذ المصطلحات اللغوية الكلاسيكية وتطويرها بما يتناسب مع العلوم الحديثة؛ لتكون قادرة على إظهار استنتاجات أكبر مما استنتجه الخليل في دراسته للغة.

فمن منهجه يستطيع طالب العلم دراسة اللغة ووصف نتائجها عبر الوسائل العلمية الحديثة ويستنتج بالمنهج الرياضي الثروة المعجمية لدى الكتّاب بكل فروعها ويتحقق من انتماء الكتابة لصاحبها ويفرق بها بين النثر والشعر ويدرس اللغة في جانبها الدلالي والصرفي والنحوي إذ أخذ مصطلحي (المتحرك والساكن) عند الخليل في ابتكاره علم العروض والموسيقى ليؤسس علم دراسة الأسلوب في النص الأدبي ومنها دراسة القرآن الكريم وفهم أسلوبه اللغوي.

اعتمد الأستاذ في منهجه الرياضي على ظاهرة المتحرك والساكن في فهم انتماء النص الأدبي في الشعر والنثر والقرآن الكريم وهي ظاهرة اعتمدها الخليل بن أحمد الفراهيدي في العروض يقول الدكتور: «وأمّا نحن فقد جعلنا لأنفسنا منهجا نتبعه وهو السعي أولا وآخرا لنتبيّن المسلك الذهني الّذي سلكه صاحب النظرية لبناء نظريته ... وإلى جانب ذلك فإننا سنعتني بما ألقته هذه النظرية من أضواء على دراسة إيقاع الشعر والنثر وما يمكن أن يستفيد به منها الدرس الأسلوبي اليوم» الأسلوب والإحصاء ص 339 وهو الدافع الأساسي لتسليط الضوء على هذه الدراسة ليستفيد دارس العربية والمهتم بها في عمان على ابتكار طريقة جديدة من طرق الخليل العبقرية في فهم النص الأدبي ونقده ومقارنته مع النصوص الأخرى.

يستخلص الدكتور في نتائجه الإحصائية عن القرآن الكريم معتمدا على دراسته للشعر الجاهلي ونظام الخليل بن أحمد الفراهيدي في كون الشعر لا يزيد عن أربع متحركات يليها ساكن (سمَكَتَنْ) (مُتَعِلُنْ) بقوله:» يجيب توزيعنا الأول هذا في ضوء فرضية القدامى في أنواع فئات المتحركات في الشعر إجابة أولى قاطعة وهي أنّ القرآن ليس شعرا وإن كثرت فيه الفواصل التي تذكر العابر بالشعر وإيقاعاته»(المرجع نفسه ص409) ويرد أمثلة على توالي خمس وست وسبع متحركات يليها ساكن ومن ذلك :-

1- إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) (الكوثر)

2- أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ... فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ .(الفيل)

3- وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8) (الضحى)

4- وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) (الأعراف)

5- وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ(127) (الأعراف).

الفكرة التي طرحها الدكتور في تناوله أسلوب الخليل في نظرية المتحرك والساكن هي تطبيق تلك النظرية بين النصوص المتجانسة لاستخراج نتائج تخدم النصّ التاريخي واللغوي والنقدي وبه تستطيع أن تميز أسلوب كل كاتب من خلال ذات المفهوم (المتحرك والساكن) ونضع بين يدي القارئ أنموذجا من خلاصة الدراسة التي اعتمدها في دراسة القرآن الكريم مع نصوص نثرية أخرى وهي مراسلات الرسول(صلى الله عليه وسلم) والأدب الكبير وكليلة ودمنة وكتاب سيبويه الّذي خلص فيه أنّ القرآن وعينات النثر أقوال من جنس واحد تختلف أسلوبا.

إنّ إظهار هذا العمل يأتي لنوضح أمرين هامين :الأول أنّ الخليل عندما وُسِم بالعبقرية فإنّه لم يكن مؤسسا لعلوم اللغة بل في ابتداعه طرائق وأفكارا مبتكرة تخدم اللسانيات ويمكن للمشتغلين باللغة توظيف تلك الطرائق في أشياء أخرى تخدم دراسة النص وتحليله في هذا العصر وما ظاهرة المتحرك والساكن إلا إحدى تلك التجليات العبقرية التي وجدت لدى هذا العالم اللغوي الكبير، الأمر الثاني أنّ أستاذنا كان فطنا بتخصيص دراسته فيما استخدمه الخليل من مصطلحات وأفكار لفهم اللغة ؛ لينتج منها استنتاجات تخدم اللغة وتطورها واستفاد هو من مفاهيم الخليل في ابتكار تأصيل يخدم اللغة ويكشف انتماء النصوص وتجانسها فالتمييز بين القرآن وكلام الرسول (عليه الصلاة والسلام) يحتاج إلى إثبات وتاريخية النص وفق فترته الزمنية تحتاج إلى إثبات وقرائن واضحة وكذا في باقي العلوم الإنسانية . فهو قد أبرز لنا من مفهوم المتحرك والساكن نظريات رائعة تثبت أنّ أستاذنا كان معايشا لفكرة الخليل وتمثلها خير تمثل؛ ليبدع أسلوبا جديدا في دراسة النص الأدبي ومن هنا أدعو أبناء العربية والمشتغلين عليها أن تتسع دراستهم اللسانية الأسلوبية في مفهوم(المتحرك والساكن) لكشف النصوص الأدبية أو البحث عن مفاهيم أخرى وضعها الخليل في علمه لتؤسس عملا أسلوبيا يخرج من رحم العربية ليستغل في دائرة العلوم الإنسانية أو الفلسفة أو يأتي باحث يشتغل في دارسة النصوص العمانية القديمة والحديثة ويبرز الأدباء في أساليبهم اللغوية وفق ما تمثَّلَه الخليل في نظرياته اللغوية.