أفكار وآراء

تداعيات بروز الشعبويّة في الغرب

03 مايو 2019
03 مايو 2019

د. وليد كاصد الزيدي -

تُعَدّ عودة الشعبويّة إلى الولايات المتّحدة وأوروبا إحـدى أهمّ الظـواهر السياسـيّة التي برزت في السنوات الأخيرة الماضية وأخطرها، في حين تُثير مَخاطِر تداعياتها حفيظة المُسلمين بعامّة والعرب بخاصّة، ولاسيّما منذ تولّي دونالد ترامب سدّة الحُكم في الولايات المتّحدة، وما تلى ذلك من امتداد رقعتها الجغرافيّة في مناطق واسعة من العالَم في عددٍ كبير من الدول الأوروبيّة، بل وفي البرازيل وغيرها مؤخّراً.

مثّلَ فَوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكيّة نهاية العام 2016 دافِعاً وحافِزاً قويّاً جديداً للأحزاب الشعبويّة واليمينيّة المتطرّفة في العالَم بعامّة، وأوروبّا بخاصّة، من أجل إنعاش آمالها بالحصول على مَواقِع متقدّمة في السلطة عبر الانتخابات، كما حدث في النمسا وهولندا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وبولندا وفرنسا وغيرها من البلدان الأوروبيّة؛ وهو ما دعا مؤسِّس حزب الجبهة الوطنيّة الفرنسي جان ماري لوبان ووالد زعيمة الحزب مارين لوبان في أعقاب فَوز ترامب إلى القول: «اليوم الولايات المتّحدة وغداً فرنسا»، وهو يقصد توّلي اليمين السلطة في فرنسا مُستقبلاً.

ماهيّة الشعبويّة وأسباب صعودها

الشعبويّة «Populisme» كما يُعرِّفها قاموس لاروس الفرنسي « أيديولوجيّة سياسيّة لعددٍ من حركات التحرّر الوطني التي تهدف إلى تحرير الشعوب من دون اللّجوء إلى الصراع الطبقي. كما أنّها خطاب سياسي موجَّه إلى الطبقات الشعبيّة قائم على انتقاد النِّظام ومسؤوليه والنّخب».

وعلى الرّغم من استخدام هذا المُصطلح، بشكلٍ واسع، إلّا أنّه لم يكُن دقيقاً تماماً. فقد تمّ تطبيقه قبل عقود عدّة من ضمن مجموعة أفكار مُختلفة لأفرادٍ وحركاتٍ شملت حزب الشعب الأمريكي، وحركة نارودكي القرن العشرين الروسيّة؛ والبيرونيّة الدكتاتوريّة، والديمقراطيّة السويسريّة.

وقد تبنّاه الرئيس كارتر والرئيس ماوتس تونغ، ولكنْ، لم يضع هؤلاء جميعاً ولا مُتبنّو ومُناصرو «الشعبويّة» تعريفاً مُشترَكاً ومحدَّداً لها؛ إذ ترى مارغريت كانوفان أنّ فشل هذه المُحاولات يعود بشكلٍ عامّ لسببٍ أو سببَين: « فإمّا التعريف واسع، ولكن يشوبه الغموض، أو إنّه واضح، ولكنّه مقيَّد باختيار حالات فيها جوانب تعسفيّة تشوِّه معناه».

ولدى البحث عن أسباب صعود الشعبويّة في الولايات المتّحدة والدول الغربيّة، يؤكِّد «إيفان كريستيف» Ivan krastev في كِتابه «ما بعد أوروبا»After Europe، أنّ صعود الخطاب الشعبوي اليميني في أوروبا ارتبطَ بحال «العَولَمة المُفرِطة (Hyperglobaliztion) التي تبنَّتها الحكومات الأوروبيّة وتسبَّبت في أضرارٍ اقتصاديّة للطبقة الوسطى في الدول الأوروبيّة، واعتبر الشعبويّة احتجاجاً من هذه الطبقات على النُّخب السياسيّة، كما أشار إلى «تأثير العدوى» (Contagion Effect) لتفسير انتشار صعود التيّارات اليمينيّة، مُعتبِراً أنّ الشعبويّة تُمثِّل تهديداً لبقاء المشروع الأوروبي، بخاصّة في ظلّ العداء للاتّحاد الأوروبي وسياساته من التيّارات اليمينيّة.

تأثيرات الترامبيّة

عزَّزت الوعود الشعبويّة العشوائيّة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حملته الانتخابيّة فَوزه في الانتخابات التي جرت أواخر العام 2016، التي سرعان ما تراجَع عنها بعد فَوزه في الانتخابات، على الرّغم من تأكيد إدارته أنّ الرئيس الجديد لم يتبرَّأ من وعوده الانتخابيّة، وأنّه سوف يفعل كلّ ما في وسعه لتنفيذها.

ولكنْ، في السياسة الخارجيّة، فإنّه لا يزال من الصعب التمييز بين الوضع الحالي واتّخاذ إجراءات جدّيّة ملموسة بعض الشيء في تطبيق وعود ترامب التي طَرَحها في بَرنامجه الانتخابي.

إنّ الأفكار التي عبَّر عنها ترامب خلال حملته الانتخابيّة مثل شعار «أمريكا أوّلاً»، واستعادة المكانة الأمريكيّة في العالَم، والعداء للاتّجاهات اللّيبراليّة، تُشير إلى توجّهاته الشعبويّة بوضوحٍ وجلاءٍ تامَّين.

وإذا كان فَوز دونالد ترامب قد اعتمدَ على المزاج العامّ لأمريكا الرّاغبة في التركيز أكثر على نفسها، والذي يعني نجاح التوجّهات الشعبويّة لدى ترامب في خطاباته أثناء حملته الانتخابيّة، فإنّه لا يزال من السابق لأوانه أن نرى إعادة النَّظر بصورة جذريّة وفوريّة في جميع جوانب السياسة الخارجيّة الدوليّة والتدخليّة السائدة منذ نهاية الحرب العالَميّة الثانية.

وعلى الرّغم من مرور أكثر من عامَين تقريباً على وصول ترامب إلى سدّة الحُكم، إلّا أنّ عدداً كبيراً من الكُتّاب والمفكّرين ركّزوا على تأثيرات ترامب في السياسة الأمريكيّة بخاصّة والعالَميّة بعامّة. فمثلاً ركَّز تشارلي لادرمان وبرينان سيمز على «تشكيل رؤية العالَم» لدى دونالد ترامب، تتمثَّل بخاصّة بالقوميّة والشعبويّة والانفراديّة، والتمرُّد على القواعد والمؤسّسات، وعدم الإيمان بالتحالُفات، والإيمان بالقوّة.

تمدُّد الشعبويّة في العالم

كانت هنالك أحزابٌ شعبويّة أوروبيّة قد ظهرت منذ الحرب الباردة، ولكن بشكلٍ هامشيّ. ففي السويد ظهر حزب الرايخ الشمالي الذي جرى إنشاؤه في العام 1956. أمّا في فنلندا، فقد دخل الحزب الريفي الفنلندي برلمان هلسنكي في آذار(مارس) 1970، ووَصَلَ صداه إلى الدنمارك في العام 1972 من خلال حزب التقدُّم الذي تبنّى الصراع المُعادي للضرائب، وظهرَ حزب أندرس لانغ الشعبوي في النرويج في العام 1973. في حين شهدت الشعبويّة صعوداً كبيراً في السنوات القليلة الماضية، ولاسيّما في أعقاب وصول الرئيس الأمريكي ترامب إلى الرئاسة في نهاية العام 2016، وهو ما أسفرت عنه انتخابات عدّة جرت خلال عامَي 2017- 2018 سواء في فرنسا وألمانيا أم في النمسا وهولندا وبلدان أخرى، حيث تُشير نتائجها إلى نجاح الأحزاب الشعبويّة واليمينيّة المتطرّفة في ازدياد شعبيّتها، وتقبّل خطابها اليميني المتطرِّف من عددٍ واسعٍ من الجمهور. ومن بين أبرز هذه الأحزاب «حزب الجبهة الوطنيّة» في فرنسا، و«حزب الشعب» الدانماركي، و«حزب الفجر الذهبي» في اليونان، و«حزب الحريّة» الهولندي، و«حزب بوديموس» في إيطاليا، و«حزب الحريّة» النمساوي، و«حزب القانون والعدالة» اليميني في بولندا، و«حزب البديل من أجل ألمانيا»، الذي أحرز المرتبة الثالثة في الانتخابات الألمانيّة الأخيرة، وغيرها.

فضلاً عن ذلك، فإنّ الشعبويّة تجتاح العالم من الفلبّين إلى الولايات المتّحدة مروراً بالبرازيل مؤخّراً، وقبلها الهند والمكسيك وباكستان وكندا، يقودها قادة مثيرون للجدل، تتبعهم شعوب مغلوبة على أمرها أرهقتها الأزمات الاقتصاديّة لتعمل على زَعْزَعة الحياة السياسيّة في بلدانها.

آثار تنامي المدّ الشعبويّ وتداعياته لعلّ خطورة اليمين الشعبوي تكمن في ما تضمره من تخفٍّ تحت غطاء الديمقراطيّة وتستّرٍ بها. فهو يُعِدّ نفسه «ظلّ الديمقراطيّة الذي لا يُفارقها»، وهو ما تحدَّث به «تيودور أدورنو» الفيلسوف وعالِم الاجتماع الألماني بقوله: « لا أخاف عودة الفاشيّة في قِناعٍ فاشيّ، بل أخاف عودتها في قناع ديمقراطي!». وهو ما نجده يحدث اليوم فعليّاً في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفي أوروبا.

والشعبويّة تبرز من جديد كرّد فعل على السياسات الغربيّة وفشلها في تحقيق طموحات شعوبها. ولعلّ هذه التوجّهات، هي التي ترسم في الوقت الرّاهن السياسات المُستقبليّة لأحزاب اليمين الشعبوي في أمريكا وأوروبا، والتي غالباً ما تزيد من تنامي شعبيّتها وازدياد حظوظها في الفَوز بالانتخابات المُقبلة.

والسؤال المطروح اليوم: ما هي الآثار التي ستترتَّب عن الانقسامات الاجتماعيّة التي تقود الشعبويّة على أوروبا والمُجتمع العالَمي؟ وكيف ينبغي لنا التعامُل معها؟

تقوم مَراكز بحوث كبيرة في مُختلف بلدان العالَم بدراسة هذه الظاهرة، ومن أبرزها المَعهد الفرنسي للعلاقات الدوليّة (Ifri)، الذي دَرَسَ ماهيّة الآثار التي ستترتّب عن الانقسامات الاجتماعيّة التي تقودها الشعبويّة في أوروبا والعالَم، وكيف ينبغي التعامُل معها ومُواجهتها مستقبلاً؟ فهل ستُدرِك مَراكِز البحوث والمؤسّسات الأكاديميّة والفكريّة العربيّة كافّة أهميّة مَخاطِر ظاهرة الشعبويّة لتَدرس وتُحلِّل تطوّرات بروزها وتناميها المُتسارعَين في العالَم بعامّة، وفي بُلدانها بخاصّة وكيفيّة مُواجَهة مَخاطرها المستقبليّة؟ من كلّ ما تقدَّم، نجد أنّ مُعطيات كثيرة سبق التطرُّق إليها آنفاً، تُنبئ بالمَخاطِر التي تُنذر بها الشعبويّة واليمين المتطرّف، والتي تستدعي قيام المؤسّسات العِلميّة والبحثيّة العربيّة والإسلاميّة بإجراء المزيد من الدراسات والرصد والاستشراف المُستقبلي لتداعيات صعود الأحزاب الشعبويّة اليمينيّة في أوروبا ومَخاطرها المُحتمَلة، ولاسيّما أنّ تلك الأحزاب بدأت تتعاون في ما بينها ساعيةً إلى تشكيل تحالُفٍ موسَّع لتنسيق أعمالها، وهو ما حدثَ لدى عقْدها قمّة غداة تنصيب ترامب، ضمت أحزاب اليمين المتطرِّف في سبعة بلدان أوروبيّة، بينها فرنسا وإيطاليا وبلجيكا والسويد وهولندا والنمسا، وهي تهدف إلى تشكيل جبهة موحَّدة قبل إجراء الانتخابات في بلدان أوروبيّة عدّة. وقد ناقَشت موضوعاتٍ مُشترَكة من بين أبرزها رفْض الهجرة والإسلام والنّخب وأوروبا الموحَّدة.

* باحث في المركز العربيّ الديمقراطيّ في برلين - ألمانيا - ينشر بالاتفاق مع مؤسسة الفكر العربي