المنوعات

السلوك العُماني الواعي والعقلاني في السياسية الخارجية أصبح أمرا واضحا

28 أبريل 2019
28 أبريل 2019

«العوامل الأساسية في تاريخ الدبلوماسية العمانية» لقاسم الصالحي -

يسعى الدكتور قاسم بن محمد الصالحي من خلال كتابه (العوامل الأساسية في تاريخ الدبلوماسية العمانية) الذي صدر مؤخرا عن مؤسسة بيت الغشام إلى تقديم دراسة تتوسم فهم التميز في الدبلوماسية العُمانية عن غيرها، انطلاقاً مما ارتكز عليه الوجود البشري من تواصل مستمر، وترابط متوال للعلاقات، وما جبلت عليه حياة الفرد والمجتمع بصفة طبيعية منذ النشأة الأولى، وما تجلت به الدولة العُمانية على وجه الخصوص عند مختلف المحطات الحضارية، وما سجلته من رقي إنساني وتطور بارز، حافل بإبداعات وقدرات مادية ومعنوية متجددة متحدية للطبيعة، فشكلت منعطفات رئيسة في مصير ومسار حياة الإنسان العُماني.

وفي هذا السياق يقول المؤلف: «فإن الدبلوماسية العُمانية في محيطها العربي والإسلامي، تعني مجمل الممارسات العُمانية في أبعادها المتداخلة والمتفاعلة، من مواقف سياسية ومبادرات، وأيضا من سياسة اقتصادية وتجارية وثقافية، وكذا انشغالاتها الأساسية في المنطقة، التي تتمثل في الحفاظ على السيادة والمصالح الوطنية العُمانية، والاهتمام بمسألة التوازن الإقليمي بالمنطقة في ظل وجود الخلافات والاختلافات بين الجيران الإقليميين، لذا فهي عبارة عن ترجمة حقيقية لتصورات جلالة السلطان وأهدافه التي تسير في اتجاه دعم حلقات الانتماء العربي والإسلامي.

وتظهر بالتالي، كما يؤكد الدكتور قاسم الصالحي، صعوبة فصل العوامل الداخلية وبلورة دورها بكل وضوح في تحديد السلوك الخارجي. وبالنسبة لعُمان فإن الترتيب المؤسساتي لدور هذه العوامل يضع أهم مكون من مكونات الحقل السياسي العُماني على رأس العمل الدبلوماسي، ويتعلق الأمر بالمؤسسة السلطانية، حيث يعهد النظام الأساسي للدولة إلى جلالة السلطان الإشراف على وضع الخطوط العريضة للسياسة الخارجية، وتجسيد مفهوم المجال المحفوظ لجلالته في ميدان السياسة الخارجية، إلا أن المؤثرات التاريخية التي نمت وترعرعت في المجتمع الوطني على المستوى الداخلي، لعبت دورا رياديا في إبراز هذه السياسة، وتجذرت تدريجيا في الثقافة السياسية للمواطن العُماني، وهذه المبادئ تركز على السيادة الوطنية، والتضامن العربي والإسلامي، وعلى هذا الأساس فرض جلالة السلطان قابوس بن سعيد حضوره على الساحة الإقليمية والدولية من خلال توظيف مؤهلاته الذاتية، فشخصيته هي التي أعطت في الواقع لعُمان مركزاً مهماً وحضوراً في كافة المنتديات واللقاءات والمؤتمرات والمفاوضات التي تُعهد إليها للقيام بدور المفاوض في القضايا العربية والإسلامية والدولية.

ويؤكد المؤلف بأننا لا نبالغ إذا أقررنا بأن السلوك العُماني الواعي والعقلاني في اختيارات السياسة الخارجية أصبح أمرا واضحا لعدم جدوى الدوران في فلك مشاريع تعرضت لزلازل وهزات متكررة منذ حرب الخليج والغزو الأمريكي للعراق وصولا إلى تداعيات الربيع العربي، كذلك الأمر بالنسبة للعمل الخليجي الذي يعاني من جمود كامل بسبب الخلل في البنيات السياسية والأمنية بين بعض دوله.

ويرصد المؤلف دور عُمان التي عملت منذ السبعينات على دعم الارتباط الجماعي، وتوجت هذه الجهود بتأسيس روابط وتجمعات إقليمية، وظلت وفية للنهج نفسه في دعمها للجيران، والبلدان الشقيقة والصديقة، والمشاركة في حل النزاعات العسكرية بالطرق السلمية، ولم تعرف هذه الدينامية الإيجابية لعُمان فتوراً حتى في ظل رواسب الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وواصلت اهتمامها بالسلم العالمي، وخاصة من خلال دعم العلاقات ثنائية الأطراف التي شكلت البوابة الرئيسة للاستمرار في تحسين موقعها، لاسيما مع صعود تيار من الدول التي تدور في فلك المعسكر الشرقي، والذي كان يعرقل عُمان حينها في بناء نهضتها، وقد تمسكت بشعار الشراكة من أجل السلام المترسخة أساسا في الوعي الجمعي العُماني، وواصلت جهودها الدبلوماسية لحل النزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية.

ويرى الدكتور قاسم بن محمد الصالحي أن مفهوم دبلوماسية الفعل البناء والواقعي لعُمان، الذي يحرص على نسج علاقات إيجابية نفعية مع كافة الدول، هو نموذج لشراكة تكاملية ومندمجة تسعى إلى الرفع من المستوى المادي للأطراف كافة، ويقدم بدائل استراتيجية ناجحة من منطلق معادلة «رابح-رابح»، والتعويل على المدخل الاقتصادي كمقاربة واقعية تمهد الطريق لتفاهمات وتوافقات أخرى تخدم أهداف المصلحة الوطنية العُمانية، فالتحديات قد تتغير مع الزمن ولكن العوامل والمبادئ الأساسية التي انبنت عليها السياسية العُمانية تبقى هي نفسها، مُحترمة لسيادة القانون والنظام الدولي المرتكز على ميثاق الأمم المتحدة والمبادئ التي يعكسها.

ويبرز المؤلف جوانب من الدبلوماسية العماني تجاه بعض القضايا العربية، ففي الشأن الفلسطيني يقول: «بالرغم من المكاسب المتواضعة التي قدمت في البداية كنتيجة لاتفاقية مدريد ثم اتفاقية أوسلو، إلا أنهما السبب الذي كان في ظهور المعاناة بمسار القضية الفلسطينية في إقامة دولة، ولا يهم أن نضع اللوم على أي من الأحزاب المشاركة والمتورطة، إلا أن نظرة عُمان ببساطة هي: أن نلاحظ بأنه ربما يوجد اليوم أقل تفاؤل وأقل قرارات وأقل طاقة جماعية في فكرة التضامن العربي الجماعي في دعم فلسطين».

أما بالنسبة لمجلس التعاون الخليجي فيرى المؤلف إن مستقبله في شكوك، حيث انه وبتخيل هذه التحديات الهامة فإن عُمان ملتزمة بشدة، وعلى نحو شامل لما يدعى بالخيمة الكبيرة والصورة الكبيرة تشمل كل الجيران، لأنه لا يمكن الحصول على الاستقرار الإقليمي إذا ما تم استبعاد اللاعب الأساسي في المنطقة من الحوار، وبالتالي فإن المطلوب تخفيض التوتر، والبدء بتوجيه الانتباه إلى محبة الجيران والجدية مع الآخرين، وأن نعي بأن التاريخ الذي كنا نتعامل معه والذي ساعدنا دائماً على فهم الأحداث التي حصلت عبر السنين، يذكرنا بأنه في هذه المنطقة بالذات الحوار هو المفتاح، وإذا لم يكن هناك الحوار فسينفجر الصراع الذي لا يريده أحد، ولا أحد في المنطقة يحبذ مبدأ المواجهة، بل الكل يشارك في حل المشاكل مع المناطق الأخرى ويتحاورون، ويبنون الثقة، حيث إنه شئنا أم أبينا فإن هذه المنطقة هي جارة وستبقى جارة، ولا بد من الواقعية في بعض المراحل، والتعامل معها من خلال وسائل سلمية حتى وإن كانت إيران تشكل تهديداً لأمن إسرائيل مثلاً، فإن الحوار قد يكون مجدياً، فعبر الحوار والنقاش والارتباط فقط يمكن وقف هذا التهديد، وجمع الكل على منصة واحدة للتعايش معاً في سبيل الأمن واستمرار الاستقرار للجميع، من خلال الحوار والتفاعل المستدام، والعمل على بناء الثقة والتواصل بالعين.

ويختتم الدكتور قاسم الصالحي كتابه مؤكدا أن المفتاح الأساسي في الممارسة العُمانية للسياسة الخارجية، هي أن عُمان لن تفرض أبداً موقفاً معيناً، وهذا هو المبدأ الحقيقي الذي يقود دورها الدبلوماسي والذي كان وما يزال مستمراً بالممارسة لقوى السياسة التقليدية القديمة، وستبقى ملتصقة بها لأنها الأفضل لها، فهي عندما تتفهم وتحترم بعض المواقف التي تتخذها بعض الدول المجاورة، وما إذا كانت تساهم في التوازن أو زعزعته، لكون الجميع متشاركا في المنطقة، وعُمان جزء من هذه المنطقة، لذا وجب تكثيف المحادثات والحوار من أجل التغلب على القضايا، وهي تدفع إلى الأمام سياسة الاقتصاد في توظيف الأموال مثل أي طرف دولي آخر، وقد أخذت الدرس لتعلم كيفية التنوع وتوظيف الأموال بعيداً عن النفط وذلك لاستدامة التطور والنمو الاقتصادي للشعب العُماني، وتؤمن بقدرتها لتحمل الصعاب والتغلب عليها، كون أن الشعب العُماني قد اعتاد أفكار الطرق الحديثة للتعامل مع الأوضاع، وتحمل المؤلم منها بعض الشيء، ولكن ما تحتاجه زيادة جرعة التواصل بشكل أفضل مع شريحة الشباب على الأخص، حتى يكون هناك شريك حقيقي بين الحكومة والقطاع الخاص، بحيث يمكن أن يكونوا يداً واحدة للتغلب على الصعوبات في هذه المرحلة الصعبة من خلال رؤية متفائلة بالمستقبل.