um-alsaad
um-alsaad
أعمدة

مقال: «نزوى» حين تتواتر صناعة «الفرح»

28 أبريل 2019
28 أبريل 2019

الدكتورة: أم السعد عبد الرحمان مكي / كاتبة جزائرية -

[email protected] -

السياحة في «نزوى» ذات «فرح»، ولطالما تنصل سكانها من «الشجون»، يبدأ ذلك مع أولى الخطوات والنفس تتهيأ لدخول بوابة التاريخ المنتصب أمام بابها الخشبي الكبير، وحارسها الذي ظل يحمل بندقيته كتعبير شكلي أكثر منه دفاعيا يوحي بكينونة النظام القائم داخل أحد أهم القلاع الشاهدة على قداسة المنطقة، تماما كما تتجلى ابتسامة الحارس وهو يُشرع لك الدفة لتلج الباب وأنت تشرع بيديك أولى صفحات الحصن التي ستقراها على مهل وأنت تتجول بعينيك قبل أن تطأ أقدامك تفاصيل المكان.

صناعة «الفرح» في حصن «نزوى»، تنتقل بالزائر عبر سلسلة من المنافذ، ومن خلف أسوار شتى تحافظ لليوم على سجل المنطقة النابض بكل «فخر»، من الباب الخشبي الكبير الأول انتهاء إلى آخر باب يفضي إلى حديقة محيطة بالحصن، حيث تتداخل المهام في الحصن وتتعدد الأشكال والصور والرسائل الدالة، إذ يتعهد كل شبر من الحصن على أن يقدم للزائر «إضافة».

حصن «نزوى»، بتاريخه العريق، ودفاعه المستميت عن شرف الوطن، يصنع اليوم «فخرا» من نوع آخر، يخلد من وراءه جهد الأجداد، ويعبر للعالم بأن «نزوى»، وإن كانت «لؤلؤة» انزوت بين ساحل بحر عمان والخليج العربي، إلا أنها لم تفعل ذلك أبدا بدافع الجبن أو البخل، بقدر ما كانت يد جبلها الغربي منهمكة بحثا في باطن الأرض عن بقايا مياه تضمن لها البقاء، وكذلك ليصنع من نفسه موطئ عبادة، ومركزا تُدار عنده شؤون السيادة، وحلقة تلتف حولها الأجساد، وتلهج بذكرها الألسن، وتحج إليها الأرواح، وتمتد في جنباته خطوط العمران كما لو أنها تتطلب مزيدا من الحماية.

تتجلى في الزقاق الأول من حصن «نزوى»، بعد أخذ تأشيرة حارس الحصن الذي يغدق على الحضور بكرم ابتساماته «الطائية»، أرضية الحصن الخشنة العصية، والتي لم تستطع تقلبات الأزمنة أن تغير من شكلها شيا، ولعل امتدادها الواسع هو ما يدفع بالحضور لاكتشاف زواياها، وأول ما يشد انتباه الوالج من باحة الحصن السفلية منظر بئر الماء الحجري الذي ما زال الدلو لليوم متدلِ بمعصمه، كما لو أنه ينتظر- لعل «يوسفا» آخر يلتقطه بعض السيارة من رحم «الجب».

منظر يجعل الناس يهرولون نحوه في محاولة للإمساك بالحبل - ولو من باب الدعابة - وهم يأملون أن يعود محملا بنزرِ قليلِ مما خلفه الأجداد في جوفه، غير أنهم وعندما ينفضون أيديهم من تحقق آمالهم يتطلعون بفرح غامر إلى الاستفادة من لحظتهم النادرة، ووسط ضحكاتهم العالية وابتسامتهم التي لا تنقطع يعهدون إلى تخليدها في ذاكرة الصور الملتقطة بجوار البئر في حميمية بالغة.

حصن «نزوى»، يقدم للزائر كل شئ، في هذا الركن ترى عجلة صناعة الأواني «الفخارية» لا تتوقف أبدا، والوفود التي تستوقفها تلك الحركات العجيبة تعبر بإعجابِ كبيرِ عن محافظة المكان على صلة الرحم الممتدة بين طين الأواني وتراب الأجساد، ووسط كمِ من الأدوات التقليدية ما يزال «الخنجر» العماني الذي يصنع من الفضة، ومن الخشب، ومن السيراميك الفاخر حاضرا في كل المناسبات الرسمية منها والعائلية، حيث هذي التحفة الخالصة لوجه «عُمان» تتشبث وبقوة بتراثها، وتعبر عن تفردها في فرض سلطانه على خصر الرجال، حيث يتقاسم «الخنجر» و«البشت» لليوم تقاليد السلطنة.

وغير بعيد عن ذلك، ما تزال «الأم» العُمانية بصبرها الجميل، وببالها الواسع، وصدرها الرحب، منكبة لليوم على خياطة ثياب الزينة للصغار، وسط الورشات المفتوحة في أحد الزوايا داخل الغرف وخارجها وعرضة للشمس، تراها وقد أنتجت من التصاميم الكثير، وتمددت خطوط أحلامهن فوق أقمشة من حرير، بألوانها الزاهية، معبقة بخلاصة المحبة الرافلة، ولم تكف النسوة عن صناعة الفرح عند هذا الحد، ولسان حالهن يقول فما زال في جعبتهن البقية، زوادة الخير التي لا تنضب أبدا محملة بإبداعاتهن بين تجميل وتطبيب.

حصن «نزوى»، بدرجه الكبير الشاهق الطامح، يتسلقه الزوار للمضي إلى باحته العلوية للبحث عن اكتشاف الجزء الآخر المكنون، وعند الانتهاء إلى صحنه يكتشفون أن ساعة الزمن التي توقفت عند منتصف نهار عمر السلطنة ما تزال تصارع لليوم حتى لا تغيب شمسها، وهي تضع بين قدمي الوالج أكثر من سبيل لتسلق جدار الحصن انتهاء إلى قمته، حيث الصغار يتخللون الكبار في رحلة اكتشاف كبيرة بأسئلة مشرعة عمن بناه، وكيف تم ذلك، وكم استغرق من الوقت، والأهم من كل ذلك كيف حافظ الحصن لليوم على رشاقة قوامه، وعنفوانه، وكيف استطاع صد أصوات المدافع عنه، -والمقارنات لا تكف-، وفي غير هذي المنطقة من العالم تدك قلوب الآثار وتنزف تربتها وتبكي الأرض أسفل منها دما.

في حصن «نزوى»، ما زال العلم لليوم مثبتا شامخا في وسط الدار، في دلالة رمزية لسلطة السلطنة، وهي الراية التي تتراءى للناظر من بعيد تقابل الكتابة المنقوشة في صدر الجبل المعلنة عن ولوج بوابة التاريخ، وفي هذا المكان الطاهر الذي شهد ألوان العذاب والدسائس كذلك كان موطئ إعلان الثوار عن فجر حرية جديد، ليبقى الحصن مرجعا وشاهدا وبوصلة يستدلٌ بها كل عابر تاريخ، فهو الحصن الحصين، والدرع الأمين الذي ما زال لليوم مواظبا على كتابة تاريخ الخليج، تماما كما يصر أن يجعل الفرح يتواتر من بابه الخشبي انتهاء إلى السارية.