أفكار وآراء

الفلسطينيون من فكرة التحرير إلى فكرة الدولة المستقلة

27 أبريل 2019
27 أبريل 2019

ماجد كيالي -

ما هو مصير الأفكار المؤسسة للحركة الوطنية الفلسطينية، التي انطلقت في منتصف الستينيات، أي قبل أكثر من نصف قرن؟ أو أين أضحت تلك الأفكار؟ أو ماهي التحولات التي طرأت عليها، بعد كل تلك المسيرة المديدة والمضنية والمعقدة؟ طبعاً نحن نطرح هذه الأسئلة، مع اقتراب كشف الإدارة الأمريكية عما يسمى «صفقة القرن»، وفي واقع أضحت فيه تلك الحركة بمثابة سلطة في الضفة وغزة، وبعد أن باتت القضية مختزلة في إقامة كيان سياسي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة (1967)، ما يعني أن الأمر يتعلق بمعالجة المشكلة التي نشأت في 1967، وليس المشكلة التي نشأت في 1948، والمتمثلة بإقامة إسرائيل، وتشريد ثلثي الشعب الفلسطيني من أرضه ومن وطنه وحرمانه من هويته.

معلوم أن تلك الحركة تأسست على فكرة التحرير، أي تحرير فلسطين من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط، مع ما يعنيه ذلك من تقويض إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية واستيطانية، قامت بوسائل الهجرة والاستيطان ودعم القوى العظمى للمشروع الصهيوني.

بيد أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تبق عند هذه الفكرة، بل إنها لم تعمل حتى على تحويرها، أو أقلمتها، بما يتلاءم مع التطورات الحاصلة في نظريات تشكَل النظم السياسية، أو بما يتناسب مع التحولات في مجال الصراع مع إسرائيل ذاتها، بعد أن بات حوالي 60 بالمائة من اليهود فيها من مواليدها. ولعل المحاولة الوحيدة التي جرت في هذا الاتجاه تمثلت بطرح فكرة إقامة دولة ديمقراطية في كامل فلسطين يعيش فيها العرب واليهود معا، لكن هذه المحاولة لم تكتمل، إذ ظلت مجرد شعار سياسي من دون أية شروحات أو تضمينات سياسية أو فكرية، ما أوحى إنها طرحت للاستهلاك السياسي الدولي، أو إنها كانت محض اجتهاد شخصي لعدد من القياديين والناشطين الفلسطينيين المتنوّرين.

وعلى أية حال فإن الترويج لفكرة الدولة الديمقراطية الواحدة (أواخر الستينيات) لم يستغرق طويلا إذ أن الفلسطينيين ذهبوا في اتجاه آخر، يتمثّل بقبولهم حلا ينبني على التسوية والمساومة، بدفع من التداعيات الناجمة عن حرب تشرين2 (اكتوبر 1973)، ويتضمن إقامة سلطة فلسطينية في الضفة والقطاع.

والملاحظ أن هذا البرنامج، رغم شموله على حق الفلسطينيين في العودة، إلى جانب حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة في الضفة والقطاع، كان يتضمّن، أو كان يوحي، بإمكان الاستعداد لإجراء نوع من مقايضة ما، أو مساومة، بين حق وحق، كما اعتبر بمثابة مقاربة سياسية فلسطينية مع القرارات الدولية، المتعلقة بقضية فلسطين. لذا، فبهذا المعنى يمكن اعتبار «البرنامج المرحلي» بمثابة الممهّد أو الحاضن الطبيعي لاتفاق أوسلو (1993) الذي وقّع بين قيادة منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية.

الآن، إذا تمعنّا بما حصل، وعلى ضوء التجربة يمكننا ببساطة ملاحظة أن الحركة الوطنية الفلسطينية ما كانت مضطرّة لكل هذه التراجعات أو التنازلات، رغم كل الضغوط التي مورست عليها. والقصد أن تلك الحركة حينما تبنّت مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة كان يمكنها الاشتغال على هذا المشروع وتوضيح مضامينه وإغناءه، بدلا من التطويح به. والواقع فإن هذا المشروع كان يمكن أن يفتح على تدرّجات وتوسّطات عديدة، من مثل إقامة كيان كونفيدرالي أو فيدرالي (بين فلسطين وإسرائيل) إلى إقامة دولة ثنائية القومية (وكلها أشكال لنظم سياسية تضمن الحفاظ على الخصائص والحقوق الثقافية والأثنية للمجموعات البشرية المتمايزة التي تعيش في إقليم واحد) وصولا إلى دولة المواطنين، التي يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الدين والأثنية والعمر والجنس واللون.

وميزة الحلول التي ذكرناها إنها لا تتأسس على الانفصال الجغرافي والديموغرافي، وإنما على قبول العيش في دولة واحدة ديمقراطية ومدنية (بغضّ النظر عن شكلها أو مستواها)، وبالتالي الحفاظ على وحدة أرض فلسطين التاريخية. وميزة هكذا حلّ، أيضا، تكمن في أنه ينقل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من الصراع على الحجر إلى الصراع على البشر، أي من مجرد كونه صراعا جغرافيا، على الأرض، وعلى الماضي المثقل بالرموز والأساطير الدينية إلى كونه صراعا على القيم المتعلقة بالحرية والديمقراطية والحقيقة والعدالة؛ وهي قيم مدنية حديثة، تتلاءم مع متطلبات المستقبل، بقدر ما تتنافى مع الأساطير الدينية والقديمة التي تبرّر إسرائيل ذاتها بها.

حتى عندما اتجهت الحركة الوطنية الفلسطينية نحو تبنّي البرنامج المرحلي (أواسط السبعينيات) فإنها، مع ذلك، ما كانت مضطرّة أيضا لمغادرة فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، لأن إقامة دولة للفلسطينيين في الضفة (بغض النظر عن مآلاتها) لم تكن لتتضمن حق العودة للاجئين، ولا أية رؤية مستقبلية لمكانة فلسطينيي 48 في إطار مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني، كما لم يكن فيها أي استشراف لمستقبل إسرائيل في المنطقة، ولا لمستقبل الإسرائيليين (اليهود) فيها، بعلاقتهم بالفلسطينيين وبمحيطهم.

المعنى أن العقل السياسي الفلسطيني كان بمقدوره اجتراح معادلات أو صيغ سياسية تناسب بين الحقيقة والعدالة، وتوائم بين المطلق والنسبي، وكان بإمكانه طرح حلول مرحلية دون توهّم اعتبارها بمثابة حلول نهائية ومطلقة، لاسيما في منطقة مفتوحة على تحولات وتطورات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، لابد أن تؤثّر على النظم والوحدات السياسية القائمة، وإسرائيل بذاتها ليست استثناء من ذلك. والفكرة هنا أن أي حل يمكن أن يمهد لضعضعة وتقويض إسرائيل بطابعها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية يفترض الاشتغال عليه، سيما أن الفلسطينيين لا يملكون لوحدهم موازين القوى لفرض ما يريدونه من حقوق، حتى ولو نسبية، وسيما أن مصير إسرائيل لا يعتمد على ما يجري بينها وبين الفلسطينيين فقط، وإنما يعتمد على ما يجري في عموم المنطقة وفي العالم، سواء سلبا أو إيجابا.