أفكار وآراء

هل وصلت الحضارة الغربية إلى نهايتها؟

26 أبريل 2019
26 أبريل 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ضمن سلسلة المقالات الأخيرة التي نباشر فيها التأمل في أحوال العالم سيما في ضوء الاضطراب الأممي الحادث كونيا، تقابلنا علامة استفهام حقيقية عن نهاية العالم والحضارة وهل هي نهايات فكرية عقلانية فقط أم أن الأمر يمكن أن يكون ماديا حقيقيا، لتنتهي حضارة الإنسان على وجه الأرض؟

احد اهم الذين توقفوا أمام السؤال المتقدم «نيال فيرغسون» اشهر المؤرخين البريطانيين المعاصرين، والذي يشغل منصب استاذ التاريخ في جامعة هارفارد الأمريكية العريقة وصاحب الكتاب المعروف «الحضارة.. كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق والغرب؟»، ولعل في بعض من رؤاه وقراءاته ما يستدعي وقفة جادة للتأمل العميق في شؤون وشجون الكون.

كتابات «فيرغسون» في واقع الأمر مغايرة لرؤى «فوكاياما»، فالأخير لم يهتم إلا بقصة الرأسمالية واعتبرها مؤشرا لنهاية التاريخ، لا لنهاية الإنسانية، ولم يهتم بالإحاطة بأسباب أخرى كالمتغيرات الإيكولوجية الكفيلة قولا وفعلا بان تذهب الكرة الأرضية ومن عليها دفعة واحدة.

على انه قبل الحديث عن النهايات أو الانهيار ربما يتوجب علينا مناقشة المعطيات التي جعلت من الغرب حضارة سباقة ومتفوقة على الشرق وعلى الغرب دفعة واحدة، ولماذا يكاد يكون قدرا مقدورا في زمن منظور أن تنهار هكذا دفعة واحدة.

يمكن القول وبحسب «فيرغسون» إن هناك ستة استخدامات طورها الغرب بشكل استثنائي، في حين افتقدتها بقية أنحاء العالم، وقد أعطته السبق والتميز:

** المنافسة: التي برزت في أوروبا ذاتها التي كانت مجزأة سياسيا، وتلك التي ظهرت في كل مملكة أو جمهورية، حيث ظهرت شركات متنافسة.

** الثورة العلمية: التي ظهرت في كل الاختراقات الكبيرة التي قدمتها أوروبا الغربية في القرن السادس عشر في ميادين الرياضيات، وعلم الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلم الأحياء.

** حكم القانون والحكومة التمثيلية: الأمر الذي تجسد في العالم الناطق بالانجليزية بشكل نظام اجتماعي وسياسي مثالي يستند إلى حقوق الملكية الخاصة، والى تمثيل مالكي العقارات في مجالس تشريعية منتخبة.

** الطب الحديث: الذي ظهر في معظم مجالات الاكتشافات الرئيسية التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين، وعلى الخصوص في ميادين العناية الصحية، بما في ذلك السيطرة على الأمراض الاستوائية، وهي الاكتشافات التي ظهرت على يد الأوروبيين الغربيين والأمريكيين الشماليين.

** المجتمع الاستهلاكي: من حيث حدوث الثورة الصناعية في المكان الذي توافر فيه عرض التكنولوجيات التي تعزز الإنتاجية، وكذلك طلب المزيد من السلع الأفضل والأرخص، وذلك بدءا بالملابس القطنية.

** أخلاقيات العمل: من حيث كون الغربيين أول شعب في العالم يمزج ما بين العمل الشامل والمكثف ونسب ادخار أعلى، مما يسمح بمراكمة مستمرة لرأس المال.

كانت هذه الاستخدامات الاستثنائية الستة هي مفتاح الصعود الغربي، وعليه فانه من جانبنا نتساءل كيف يمكن لحضارة على هذه القوة والمنعة أن تنهار أو تنتهي؟

الشاهد أن هناك من بين لنا مسبقا أسباب الانهيارات التي تضرب الحضارات، وفي المقدمة من هؤلاء يأتي المؤرخ الشهير «ادوارد غيبون» في كتابه العمدة «انحطاط وسقوط»، وقد تناول ما يزيد على 1400 سنة من التاريخ، أي من العام 180 حتى العام 1590. كان ذلك تاريخيا على المدى الطويل، راوحت فيه أسباب الانحطاط ما بين الاضطرابات الشخصية للأباطرة انفسهم وسلطة الحرس البريتوري، وصعود ظاهرة التوحيد.

ولعل الأمر الأكثر إدهاشا في قراءات «غيبون» هو ذاك البعد الخاص بالحضور الديموجرافي، والمرتبط بسرعة انهيار الحضارة الرومانية، فقد هبط عدد سكان روما ذاتها بنسبة ثلاثة أرباع.

وتشير دلائل آثار أواخر القرن الخامس إلى منازل دون المستوى، ومصنوعات فخارية بدائية جدا، وعدد اقل من القطع النقدية، وماشية اصغر حجما، إلى أن نفوذ روما تضاءل بسرعة في بقية أنحاء أوروبا. وقد حدث ما دعاه احد المؤرخين «نهاية الحضارة» في غضون جيل واحد.

هل يشابه اليوم الأمس؟

الناظر إلى أوروبا قلب العالم القديم بحسب ماكندر، سيجدها اليوم تعاني من أزمة حقيقية في عدد السكان، إلى الحد الذي وصلت معه نسبة المواليد إلى قرابة الصفر في المائة، ما يعني أن هناك تهديدا حقيقيا يطال مستقبل تلك الدول، والسبب المباشر هو أنانية الإنسانية التي تود أن تعيش اللحظة الراهنة بكل رفاهيتها، ومن دون أن تسعى لتحمل جزءا من تراثها الطبيعي والتاريخي إلى الأجيال القادمة.

هنا يحق التساؤل مع «فيرغسون» أيحتمل أن تتعرض النسخة الآنية من الحضارة الغربية إلى الانهيار بفجائية مماثلة؟

ربما يقلق هذا التساؤل اليوم مضاجع المفكرين الثقات من كل الأجناس الأوروبية بنوع خاص، وقبل الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام، والمهددات من حول الحضارة الغربية لا تتمثل اليوم في العامل السكاني فحسب وتناقصه القاتل لمستقبل حضارة سادت طويلا، بل هناك عناصر اخرى يجب أن نأخذها في الحسبان، منها ما يتشاركه عدد كبير من العلماء في الرأي القائل إن الإنسانية تمر بخطر تغير مناخي كارثي، وعلى الخصوص بعد أن تمكنت الصين وبلدان آسيوية كبيرة، وكذلك دول جنوب أمريكا، من تضييق الفجوة الاقتصادية القائمة ما بين الغرب وبقية أنحاء العالم.

البعد الإيكولوجي يمكن حقا وقولا أن يؤدي إلى انهيار حضارة الغرب وربما الشرق معا، فقد حدثت زيادة كبيرة غير مسبوقة في كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض، ويضاف إلى ذلك وجود دليل على أن هذا الأمر سبب ارتفاعا في معدلات درجات الحرارة. لكن الأمر الأقل وضوحا هو كيف يؤثر استمرار هذه الظواهر في طقس الأرض؟

يمكن القطع بان احتمال استمرار عمليات ذوبان مزيد من جليد القطبين أمر لا يعد خياليا تماما، وهو ما سيؤدي إلى تغييرات في اتجاه تيارات المحيطات، أو إلى فيضانات في المناطق الساحلية المنخفضة، أو حتى تصحر المزيد من المساحات التي بقيت إلى الآن قابلة للإنتاج الزراعي.

هنا فان بعض العلماء يخشون من أن الإعداد المتزايدة لسكان البلدان الآسيوية التي تتبع المسار الذي سلكه الغرب للخروج من الفقر سوف يولد ضغطا لا يحتمل على الإمدادات العالمية من الطاقة والغذاء والمياه العذبة، ويجدر بالمشككين في مخاطر التغير المناخي أن يقضوا بعض الوقت في الصين، حيث تتسبب اكبر واسرع ثورة صناعية في التاريخ بأضرار بيئية كبيرة لا يمكن لاحد إغفالها.

لا تتصل المخاوف الخاصة بانهيار الحضارة الغربية وربما حدوث انفجار نووي وحرب عالمية ثالثة تقضي على الزرع والضرع في ست ساعات وتجعل الجنس البشري أثرا بعد عين على التهديدات الإيكولوجية فحسب، بل إن هناك توجهات فكرية ودوجمائية تقع في إطار التنبؤات التي تسعى إلى تحقيق ذاتها بذاتها، وفي المقدمة منها أفكار اليمين الأصولي الغربي، ذلك الذي يؤمن بفكرة معركة هرمجدون، والتي هي قريبة من القدس، حيث لابد للعالم بالضرورة والحتمية أن يتقاتل سكانه بين فريقين قتال ضار، تنتهي الحياة من بعده على الأرض.

ولعل الكارثة في أن هذا المفهوم لم يعد فكرا مجردا من العمل أو السعي إلى التطبيق، بل هناك خطوات جدية على الأرض وبخاصة من قبل القوى العظمى لكي يتحول إلى حقيقة، خطوات من قبيل صواريخ «سارامات» الروسية، ذلك الذي يحمل الواحد منها عشرة رؤوس نووية لا تصد ولا ترد، ومنها إعادة برنامج حرب الكواكب من الجانب الأمريكي وإطلاق المجال لشبكة صاروخية من الليزر فوق الغلاف الجوي لكوكبنا الأزرق.

السؤال الأكثر إزعاجا كيف يمكن للعقل البشري أن يتصور انهيارا للحضارة والسقوط المروع في عالم يحفل بالبنى الاجتماعية والسياسية، العلمية والثقافية، الفكرية والاقتصادية التي يعيشها عالمنا المعاصر، هل ستنهار الحضارات بعد صرخة مدوية في ميدان معركة هرمجدون أم أنها ستنهار مع نشيج يطول عهده، أي من خلال أصوات الغليان المترددة المكتومة في الصدور تارة، والمرتفعة عند البكاء تارة أخرى؟

دورات حياة الحضارات

الشاهد انه لا توجد صورة افضل لدورات حياة الحضارات من تلك التي تقدمها لوحات مسار امبراطورية، وهي سلسلة من خمس لوحات رسمها الفنان الأمريكي «توماس كول»، وهي معلقة في معرض نيويورك للمجتمع التاريخي.

كان كول مؤسسا لمدرسة هدسون ريفر، وواحدا من رواد رسامي القرن التاسع عشر للمناظر الطبيعية. تمكن كول بطريقة جمالية من استيعاب نظرية مازالت تاسر أذهان معظم الناس حتى يومنا هذا:« نظرية دورة الحضارة».

يصور كل مشهد من هذه المناظر الخيالية فوهة نهر عظيم تقبع تحت نتوء صخري.

تصور اللوحة الأولى التي أعطيت عنوان «الحالة المتوحشة» برية خضراء ملأى بمجموعة من الصيادين وجامعي الثمار وهم يتحركون بجهد في وجود بدائي قبل فجر عاصف. أما اللوحة الثانية التي حملت عنوان الحالة الاركادية أو الرعوية، فتمثل لوحة زراعية قطع الشكان والأشجار وزرعوا الحقول، كما شيدوا هيكلا يونانيا رائعا. فيما اللوحة الثالثة وهي الأكبر من بين تلك الرسوم، فتحمل عنوان إتمام امبراطورية.

أما الآن فإن هذه اللوحة محفوظة داخل مخزن رخامي كبير، بينما استبدل الفلاسفة - المزارعون المغتبطون الذين تمثلهم اللوحة السابقة، بحشد من التجار الذين يرتدون ملابس أنيقة، وبحكام وبمواطنين استهلاكيين.

تمثل اللوحة منتصف نهار دورة الحياة.

تأتي بعد ذلك لوحة الدمار، تظهر اللوحة مدينة مغطاة بألسنة اللهب بينما يفر الناس الهاربون من أمام حشد من الغزاة الذين يرتكبون أعمال الاغتصاب والنهب تحت سماء المساء الكئيبة.

يطلع القمر أخيرا فوق لوحة الخراب، لا يظهر إنسان حي في هذه اللوحة.

هل قصة الحضارات متشابهة؟

ظل المؤرخون والمنظرون السياسيون وعلماء الأجناس البشرية والجماهير بشكل عام يفضلون على مدى قرون عديدة التفكير بشأن صعود الحضارات وهبوطها بأشكال دورية وتدريجية ويبدو أنها بالفعل تتشابه عبر مراحل: الاستبداد، الارستقراطية، حكم الأقلية، الديمقراطية، حكم الرعاع.

هل كان من الأفضل لتلك الجمهورية الوليدة في عصر كول أن تلتزم مبادئها الريفية الأولى وان تقاوم مغريات التجارة والفتوحات والاستعمار، أي ان تقاوم العولمة؟

الجواب معلق في رقبة التاريخ..