1180018
1180018
إشراقات

خطبة الجمعة: الفساد المالي تضييع للأمانة وإخلال بالمسؤولية وبيع للوطن

04 أبريل 2019
04 أبريل 2019

«الرشوة».. أشدها خطرا وأعظمها ضررا -

تطرق خطبة الجمعة لهذا اليوم أبواب الفساد، ومن ذلك الفساد المالي مؤكدة أن له صورا كثيرة؛ أشدها خطرا وأعظمها ضررا: «الرشوة» مبينة أنها كبيرة من الكبائر الموجبة للعن والطرد من رحمة الله، ومن صور الفساد المالي التي تتناولها خطبة اليوم الاختلاس والتزوير، وهو أكل للمال بالباطل، وهو المعوق الأكبر للتنمية، وتؤكد الخطبة ان الفساد المالي تتعدد صوره ومظاهره، وتختلف من زمان إلى زمان، والجامع لها أنها تضييع للأمانة، وإخلال بالمسؤولية، وبيع للوطن، وأكـل للمال بالباطل، وأساسها الغفلة عن حقيقة الدنيا أنها متاع زائل. وهنا نص الخطبة الذي جاء تحت عنوان: «المال.. بين الإصلاح والفساد».

الحمد لله الكبير المتعال، سبحانه جعل المال قوام الحال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وضع للتعامل مع المال قواعد وأحـكاما، وهو القائل سبحانه: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا)، ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، المرشد إلى إصلاح المال بقوله: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح))، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته وكل من اهـتدى بهديه واسـتن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا عباد الله: تقوى الله حصن من كل فساد ومنجاة يوم الحساب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

إخوة الإيمان:

ورد عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والله ما الفقر أخشى عليكم؛ ولكني أخشى أن تبسط عليـكم الدنيا كما بسطت على من كان قبـلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهـلككم كما أهـلكتهم)). إن من أصعب الأمور التي تواجه الدول، وتقف عقبة أمام الخطط والمشاريع التنموية؛ الفساد المالي الذي ينخر الكثير من المؤسسات والهيـئات العامة والخاصة، وما من مصيبة أشد على الأمة - بعد انهيار تقوى القلوب والخوف من علام الغيوب - من ضياع الأمانة وخراب الذمم، فكم من نظام قد سقط، وعرش قد هوى؛ لأن دابة الفساد قد أكلت قوائمه حتى انهار، وأصـبح بعد أن كان قائما أثرا من الآثار، إن المال فتنة واختبار يبـتلي به الله من يشاء من عباده لينظر كيف يعملون، (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، فمن أخذه من حله ووضعه في محله؛ فعمر به الأرض، وأحاطه بسياج الأمانة والحفظ، فقد أفلح ونجح، وكسب الحياة وربح، ومن جعل المال أكبر همه ومبـلغ علمه؛ فغره سرابه، وسال للمال لعابه، ما وقع في يده أخذه ولم يسل، وما تمنع عنه سعى إليه بشتى الوسائل والحيل؛ فقد خاب وخسر، وأمامه يوم عسر، جاء في كتب السير أن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألة فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثلاث مرات، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا حكيم: إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السـفلى)) قال حكيم: فقلت: يا رسول الله: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيـئا حتى أفارق الدنيا.

إخوة الإيمان:

إن الفساد المالي له صور كثيرة؛ لعل أشدها خطرا، وأعظمها ضررا: الرشوة، وهي كل ما دفع من مال أو خدمة إلى ذي جاه أو منصب مقابل الحصول على أمر لا يحل، كحيازة أرض أو امتلاكها بغير حق، أو السعي إلى وظيفة وهناك من هو أحق بها، أو تقديم الرشوة من أجل الحصول على مناقصة، أو كسب قضية، أو تعطيل قانون، أو تسهيل خدمات لا تبذل للعامة إلا بشق الأنفس، وتبذل للراشي على طبق من ذهب، كل ذلك وما شابهه يعد من قبيل الرشوة التي هي كبيرة من الكبائر الموجبة للعن والطرد من رحمة الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الراشي والمرتشي والرائش)) والراشي هو المعطي، والمرتشي هو الآخذ، والرائش هو الوسيط بينهما، والرشوة هي السحت المذكور في قوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)، وهي خصـلة من خصال اليهود الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله كما قال الله فيهم: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، إن ما يبذل لبعض المسؤولين من هدايا وهبات لا يراد منها إلا الاسـتعطاف، أو التوصل إلى حق الغير، أو الإعـفاء عن رسوم أو عقوبات لا يجوز قبوله؛ بل يجب رده على صاحبه، ومن أخذ شيـئا فليرده إلى أصله، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اسـتعمل رجلا على الصدقة، فلما جاء قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((ما بال العامل نسـتعمله على بعض العمل من أعمالنا فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر هل يهدى له شيء أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم بشيء منها إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه فقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت)). إن من صور الفساد المالي - يا عباد الله - الاختلاس والتزوير، وهو أكل للمال بالباطل، فويـل لمن اختلس ولو خيطا أو مخيطا من أموال الأمة، ثم ويـل له، (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «القليل من أموال الناس يورث النار، قيل: ولو كان شيـئا يسيرا - يا رسول الله -؟ قال: ولو كان قضيبا من أراك». وهكذا تتعدد صور الفساد المالي ومظاهره، وتختلف من زمان إلى زمان، والجامع لها أنها تضييع للأمانة، وإخلال بالمسؤولية، وبيع للوطن، وأكـل للمال بالباطل، وأساسها الغفلة عن حقيقة الدنيا أنها متاع زائل.

فاتقوا الله - عباد الله -، وإياكم والفساد، فإن أخطاره جسيمة، وعواقبه على الفرد والمجـتمع وخيمة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.

*** *** ***

الحمد لله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحـبه ومن والاه.

أما بعد، فيا عباد الله:

لقد أدرك العالم كله ووقر في فكره أن الفساد المالي على اختلاف مظاهره وصوره هو المقوض الأول لدعائم التقدم، وهو المعوق الأكبر لكل محاولات التنمية، فما وجد في مجـتمع إلا تمزق نسيجه الاجـتماعي، وشاعت بين أفراده روح الكراهية، وضاعت بوجوده جهود الإصلاح والتنمية، وهذا بدوره يزعزع الأمن ويهدد الاستقرار، ويثير البلابل والقلاقل، فتهرب الاسـتثمارات، وتغادر تراب الوطن العقول والكفاءات، وتضعف الإيرادات، وخطر ذلك على الوطن جلي، وضرره على المواطن ليس بخفي، ومن هنا وجب على كافة شرائح المجـتمع الضرب على يد المفسدين والوقوف سدا منيعا أمام طوفان الفساد، وذلك بزرع الوازع الديني، وتربية الضمائر على التقوى، وتعميق مبدأ المواطنة، وتغليب المصالح العامة على المصالح الخاصة، وتنشيط دور الجهات الرقابية، وتفعيل القوانين التي تجرم الفساد بكل أشكاله وصوره، وإيقاع العقوبات الصارمة على كل متلبس بتهمة فساد مالي أو إداري، وخلعهم من مناصبهم وفضح دسائسهم، وإسـناد المناصب والمواقع الحيوية إلى القوي الأمين ذي الدين والخبرة والكفاءة، وعندئذ ستتقدم عجلة التطور والنماء، ويعيش كل أفراد المجـتمع في سعادة وهناء، فبالتقوى نقوى، وبحل عرى الفساد نكون نحن الأقوى، (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه حيث قال عز قائلا عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ووحد اللهم صفوفهم، وأجمع كلمتهم على الحق، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين.

اللهم ربنا احفظ أوطاننا وأعز سلطاننا وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين، اللهم أسبغ عليه نعمتك، وأيده بنور حكمتك، وسدده بتوفيقك، واحفظه بعين رعايتك.

اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).