الملف السياسي

المعركة مستمرة عبر مسارات أخرى

01 أبريل 2019
01 أبريل 2019

د. صلاح أبو نار -

في 22 مارس الماضي قام المستشار الخاص روبرت مولر بتسليم تقريره المنتظر إلى المدعي العام الأمريكي، وفي 24 مارس المنصرم أرسل المدعي العام ويليام بار إلى الكونجرس بملخص من أربع صفحات، تصل صفحاته لأكثر من 300 صفحة. وفي اليوم نفسه أطلق ترامب، بناء على ما جاء في الملخص وليس التقرير، تويته تعلن انتصاره « لا تواطؤ مع الروس.. لا إعاقة لسير العدالة.. تبرئة كاملة وشاملة.. فليحفظ الله أمريكا عظيمة».

وعلى الجانب الآخر وقفت نانسي بيلوسي المتحدث الرسمي باسم مجلس النواب تخاطب الديمقراطيين المنزعجين: «لا تدعو التقرير يحبطكم، ركزوا على سياسات الخبز والزبد والرعاية الصحية والعمل. وهذا هو الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لنا».

وعبر تلك المسافة الفاصلة بين صيحة ترامب ونداء بيلوسي، يمكننا أن نستطلع مسارات الحركة في تلك الفترة التي تفصلنا عن انتخابات الرئاسة الأمريكية.

أطلق مولر تحقيقه في 17 مايو 2017 مواصلا عمله على مدى 675 يوما متصلة. وشرع في أداء عمله «كمحقق خاص» وفقا لقانون صادر عام 1999، يختلف عن القانون القديم المنظم لعمل كينيث ستار «المحقق المستقل» في قضية كلينتون - مونيكا. ووفقا «لقانون المحقق الخاص» يقدم المحقق «تقريرا سريا» إلى المدعي العام وليس الكونجرس، والمدعي العام غير ملتزم بإعلانه. ومن حق المحقق أن يوجه اتهاما لمن يحقق في أمره أو الامتناع عن تقديم الاتهام.

وفقا لتلخيص ويليام بار للتقرير، تناول مولر في تحقيقه مسألتين: وقائع التدخل الروسي في انتخابات 2016، والاتهامين الموجهين إلى ترامب وحملته الانتخابية بالتواطؤ مع هذا التدخل ومحاولة إعاقة إجراءات العدالة الساعية لكشفه حقيقته ومدى التواطؤ معه.

وتناول مولر المسألتين عبر تحقيق مكثف واسع النطاق، استخدم فيه 19 محاميا و40 عميلا فيدراليا، وأصدر 2500 استدعاء للشهادة و500 أمر تفتيش و230 أمر فحص اتصالات وسجلات أطراف وجهات معينة.

وكيف انتهى كل هذا؟

هنا تتدخل عدة عوامل تكيف طبيعة ما لدينا من معلومات. فما لدينا حاليا ملخص من أربع صفحات، ثلثها تقريبا موجه لتلخيص أراء مولر، والثلثان الباقيان مخصصان لشرح تكييف المدعي العام القانوني لتهمة التستر على العدالة، والتفسير الفقهي لاستحالة نشر التقرير بالكامل.

ومن هنا حتى نحصل على مادة أوسع نطاقا، من المؤكد أن هذا التلخيص لا يعاني فقط من مجرد الاختزال لمادته الأصلية، بل يحتمل أيضا معاناته من مشكلة تحيز بار نفسه. والواقع أن هذا مجرد افتراض لكنه مرجح، فمن الثابت بشأن بار أنه قبل توليه منصبه في 7 ديسمبر 2018، كتب مذكرة خاصة من 24 صفحة ينتقد فيها تهمة إعاقة العدالة الموجهة لترامب، في إطار تأييده لعزل ترامب لجيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، وانتقد أكثر من مرة إدارة مولر للتحقيق.

ومن المرجح أن يستمر تأثير مشكلة تحيز بار، مع الاتجاه الحتمي للإفراج عن مساحة أكبر من التقرير، تحت ضغوط الكونجرس والرأي العام. وفي هذه الحالة فمن سيختار ما يفرج عنه وما يحجب منه، وفقا لأحكام قانون الإجراءات الجنائية الأمريكي التي أشار إليها بار وهو نفسه المعادي لتوجيه تهمة إعاقة العدالة لترامب؟ ولكن كيف انتهى حكم التقرير بشأن التهمتين؟

لكي نفهم ما فعله مولر علينا أن ننتبه إلى بعض الملاحظات التي كتبها بعض كبار القانونيين الأمريكيين. لاحظ هؤلاء أن مولر يتبنى رؤية قانونية محافظة، وأنه مهنيا قضى جل حياته يعمل في مكتب التحقيقات الفيدرالي، وأنه عامة يحمل احتراما عميقا لقيم السلطة والمؤسسات والتوازنات فيما بينها، وكل هذا جعله يتبنى مفهوما ضيقا لمهمته. ولقد كان من السهل على مولر الجزم بإدانة الروس، فالروس وفقا له سطوا على حسابات حملة هيلاري كلينتون وسربوا ما حصلوا عليه للإضرار بها، وبثوا معلومات مضللة عبر وسائط التواصل الاجتماعي للتأثير على الانتخابات. وهكذا قام بتحريك قضيتين ضد مواطنين روس، في فبراير 2018 ضد فريق من المدنيين الروس وفي يوليو 2018 ضد فريق من المخابرات العسكرية الروسية، ولكن لم يمثل منهم سوى فرد واحد أمام المحاكم في أمريكا.

وماذا بشأن التهمة الثانية ؟

سنجد مفتاح ما توصل إليه مولر في عبارة «عدم كفاية الأدلة».

في الشق الأول الخاص بالتواطؤ لم يجد مولر ما يكفي من الأدلة لإثبات تواطؤ ترامب أو رجال حملته أو المقربين منه مع الروس. وفي شق إعاقة العدالة وجد مولر ما يكفي من الأدلة المثبتة للإعاقة، ووجد أيضا ما يكفي من الأدلة النافية للإعاقة، وعندما وازن بينهما وجدهما متقاربي القوة. وهكذا قرر الامتناع عن الحكم بترجيح أحدهما تاركا المهمة للنائب العام، لكنه قرر أيضا الامتناع عن تبرئة ترامب من تهمه إعاقة العدالة.

وهنا يمكننا إيراد عدة ملاحظات. لم ينف مولر وجود التواطؤ كليا، ولكنه قال إنه غير موجود بدرجة كافية لإثبات اتهام، لكنه في الوقت نفسه كان يتحرك على جبهة واسعة و أحال أكثر من متهم للقضاء بالتهمة نفسها ، في عملية قضائية لا تزال مفتوحة. وامتنع مولر عن تبرئة ترامب من تهمة الإعاقة تاركا الأمر لبار.

والخلاصة أغلق مولر نظريا باب التحقيق لكنه لم يغلق عمليا أبواب الاتهام نفسه، ومن المفترض أن يترك خلفه ذخيرة من الأوراق والشهادات والقضايا المنظورة أمام المحاكم، كافية لمواصلة المسألة بشكل شديد الإضرار بترامب.

وفي الوقت نفسه فإن إحالته لقرار ترجيح الإعاقة أو عدم ترجيحها إلى بار هو نوع من التوريط لترامب وبار، فترامب هو من عين بار، ولأن بار له موقف مسبق من هذه المسألة وكان موقفه هو مدخله لتوليه منصبه، ولأن المفهوم الذي يستخدمه بار لتعريف الإعاقة الذي أوجزه في الملخص واجه اعتراضا واسعا داخل الفقه الأمريكي.

ما مسارات الحركة المحتملة في السياق التحليلي السابق ؟

يمكننا تخيل عدة مسارات.

من جهة أولى سوف تتصاعد الضغوط للإفراج عن أكبر أجزاء ممكنة من التقرير. ولا يجادل بار في ضرورة ذلك، بل فقط ينبه إلى أن هذا النشر سيكون بالضرورة في حدود تفرضها القوانين الفيدرالية، مثل حماية الشهود وعدم نشر أسماء وشهادات أفراد لم توجه لهم اتهامات وسرية بعض الوثائق. وفي كل الأحوال سيكون هناك حرص حتمي على تضييق مساحة النشر، في مواجهة ضغوط الكونجرس والرأي العام لتوسيعها، الأمر الذي سيخلق بؤرة توتر دائمة. وإذا راجعنا قائمة الموضوعات التي تناولها التحقيق، سنجدها شديدة الاتساع. فهي تشمل ظروف عزل ترامب لمايكل فلين، وحواره مع جيمس كومي وعزله، ومعاملات ترامب مع مسؤولي العدل والمخابرات المتصلة بالتحقيقات الجارية، وضغوط ترامب على المدعي العام السابق جيف سشنز فيما يتعلق بالتحقيق الروسي، وشهاده أعوان ترامب المزيفة أمام الكونجرس.

ومن جهة ثانية من المتوقع أن تشهد بعض القضايا المنظورة أمام المحاكم تطورات من شأنها إعادة إحياء المسألة مجددا. وستحمل القضية المنظورة أمام محكمة جنوب نيويورك الفيدرالية معها احتمالات خطرة. وقال بريت بهرارا المدعي العام السابق لجنوب نيويورك: «ترامب لم يخرج من نطاق الخطر تماما. ومحكمة جنوب نيويورك الفيدرالية تعمل بتفويض، ليس هو التفويض الضيق الذي حكم عمل مولر، وهي تمارس عملها بأسلوب صارم وجاد وغير سياسي، وسيفعل القائمون عليها كل ما في وسعهم ، إذا اقتضت الضرورة القانونية»

ومن جهه ثالثة لا يبدو أن النخب السياسية الأمريكية على استعداد للتعامل مع الموضوع كمجرد واقعة قضائية. يعرف قطاع واسع من تلك النخب أن هناك تدخلا روسيا فعليا في الانتخابات، ويدركون وجود درجة من الترحيب داخل فريق من الموجودين في البيت الأبيض . وقد لا تكون الوقائع ضخمة ومتكررة، ولكن مجرد مقابلة ترامب للمحامي الروسي للحصول على مادة مضرة بكلينتون ونصوص رسائله الإلكترونية في هذا الشأن، تبدو عملا لا يمكن قبوله ويعتبر إهانة قومية. وبالتالي لا يزن هؤلاء ما حدث بميزان العدالة القانونية ومعايير الإثبات الجنائي، بل بميزان الهيبة القومية والإحساس بالخطر وحماية المؤسسات الوطنية. وبالتالي ليس متوقعا التعامل مع الأمر بمنطق صفحة وانطوت. ونلمس ذلك لو راجعنا تعليقات كبار أساتذة القانون الأمريكي على خطاب بار، فهناك موقف نقدي عام لن ينجو منه أحد إلا فيما ندر، وخلف اللغة القانونية المستخدمة في التعبير عن هذا النقد والسخط المصاحب لها، من السهل رصد الإحساس بالخطر السياسي. وهذه النخب ذاتها لها مواقف أخرى رافضة لسياسات ترامب أبرزها ظهرت في ردة فعلها الغاضبة على الخروج من اتفاقية المناخ.

ومن جهة رابعة لا يبدو أن الرأي العام الأمريكي أصبح أكثر إيجابية في رؤيته لترامب بعد إظهار نتائج التحقيق.

في استقصاء لواشنطن بوست قال 56% إنهم يثقون في مولر و33% منهم أكثر ثقة في ترامب، وقال 57% أن مولر كان يسعى للوصول للحقائق و36% أنه استهدف الإضرار بترامب.

وفي استقصاء لرويترز قال 48% إن ترامب أو أحدا من فريقه تعاون مع الروس للتدخل في الانتخابات، وأفاد 53% أن ترامب حاول التدخل لإيقاف تحقيقات التدخل الروسي. وفي استطلاع لفوكس قال 52% إن ترامب حاول التدخل في التحقيق، ورأى 29% أن ترامب صادق فيما رواه عن الروس.