أفكار وآراء

المحتوى السياسي .. أبعاده ومعززاته

31 مارس 2019
31 مارس 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

عندما يأتي الحديث عن المحتوى السياسي؛ هذا المفهوم الكبير الشامل؛ فإن الحديث يذهب مناخات التنمية المختلفة، فالتنمية ليست برامج محدودة بسياسات محدودة، وإنما؛ فوق ذلك؛ هي مساحة واسعة من العطاء، ومساحة واسعة من بالمفاهيم المترابطة،

والفهم السياسي لا ينبغي أن يحصر في علاقات الدول بعضها ببعض، وهيمنة العلاقات المتشابكة في هذه العلاقات، أو في فيما يذهب الى الفهم الأمني الصرف، أو يذهب الى الحديث عما غير متداول، أو غير مسموح له بالأخذ والرد، حيث «سرية الوشوشات» فإن نظر إليه من هذه الزاوية الضيقة جدا، فهذا تقزيم متواضع لفهم المحتوى السياسي، ولذلك عندما تذهب التجارب الدولية إلى إعطاء هذا الجانب مساحة متسعة من الفهم، وإلى إعطاء هذا الجانب المساحة الواسعة للأخذ والرد عبر المنابر المختلفة «الحوار الفاعل» فإن في ذلك قناعة بأهمية أن يكون هذا المحتوى واضحا، ومتسعا، وقادرا على استيعاب مختلف الرؤى والنقاشات حوله، وإلى قدرته على النمو، وعلى التعاطي مع مختلف المستجدات التي تفرضها ظروف الحياة المختلفة، صحيح أن هناك محددات مهمة يجب الأخذ بها عند الحديث عن هذا الموضوع، وهذه المحددات ليس الهدف منها تقنين المساحة التي يستوعبها فهم الـ «محتوى السياسي» ولكن وجود نوع من الأطر العلمية التي لا غنى عنها في أي مفهوم تقره الإنسانية لتنظيم حياتها اليومية، ولتعزيز مجمل المفاهيم بالأسلوب العلمي الرصين، وحتى لا تترك المسألة للتأويل والتفسير من قبل الذين لا يعون كثيرا أهمية أن تكون مجمل هذه المفاهيم خاضعة لمثل هذه الأطر العلمية الرشيدة، لأن الهدف في النهاية ليس إيجاد نوع من النقاشات الفارغة، وإنما إيجاد نقاشات ورؤى تذهب الى خدمة الصالح العام، فالغاية الكبرى هي تأصيل المفاهيم التنموية على الواقع، لتؤتي أكلها للناس جميعا، لا ظالم ولا مظلوم، ولتبقى الأوطان دررا مكنونة، ومحصنة بالقيم الإنسانية السامية، وبالمعارف المؤصلة الأكيدة، ومعززة بجهود كافة الذين يهمهم أن تبقى أوطانهم حرة مصانة من أي دنس، والمواطنون هم الأولى لأن يكونوا في مقدمة الفهم الواعي لاستيعاب المحتوى السياسي في أي دولة، ليظل النسق التنموي في أبعاده المختلفة يسير سيرا متوافقا أفقيا ورأسيا دون اضطراب، ولا تشويش للوصول في النهاية الى تحقيق الغايات الكبيرة للوطن، وهي الغايات التي ترتهن في تحقيقها على جهد المواطنين المخلصين كل في دوره، ومسؤولياته الموكولة إليه.

ووفق هذه الصورة التي يكون عليها هذا المحتوى، فإن الضرورة تقتضي أن يتحقق الحوار العام الشامل، وهذا الحوار ليس وليد الصدفة، وإنما تتربى عليه الأجيال منذ السنين الأولى لعمر التنشئة، ومن ذلك أيضا تقوية المساءلة؛ مالك وما عليك، ومن أين لك، مع بقاء رعاية أمينة لصحافة حرة؛ وفق قيم المهنة؛ لا إفراط، ولا تفريط، فهذه الثلاثية تعد معززات مهمة لتفعيل هذا المحتوى، وفق هذه الرؤية، كما أعتقد، وفي تجربتنا العمانية، التي نعتز بها كثيرا ونفتخر، حرص حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - على تعزيز هذه المحتوى؛ ولا يزال؛ أصل ذلك من خلال منهجه المتفرد في إدارة الدولة العمانية الحديثة، في أبعادها المختلفة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، عبر مشروعه التنموي الطموح الذي عمل عليه جلالته، أعزه الله، قولا وفعلا، منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين المنصرم، ولا تزال السفينة مبحرة بمباركة رب العباد سبحانه، ويكفي تأصيلا لتعزيز المحتوى السياسي ذلك النهج المتفرد الذي اختطه جلالته والمتمثل في الجولات السامية في القرى والمدن العمانية، وذلك الحوار المفتوح، والمفعم بالحيوية، والتعاطي المباشر بين القمة والقاعدة بلا حواجز، ومن خلال متابعتي لنطقه السامي استرشد هنا بدلالات على قدر كبير من الأهمية لأدلل بهما على حيثيات مناقشة هذا الموضوع، حيث تمثلت الدلالة الأولى في فقرة من خطاب جلالته بمناسبة الانعقاد السنوي للفترة الخامسة لمجلس عمان لعام 2012 م، حيث قال: « لقد أثبت العمانيون خلال الحقبة المنصرمة أنهم يتمتعون بمستوى جيد من الوعي والثقافة والإدراك والفهم في تعاملهم مع مختلف الآراء والحوارات والنقاشات التي تنشد مصلحة هذا البلد ومصلحة أبنائه الأوفياء. وإننا لعلى يقين من أن هذا الوعي سيزداد وان هذه الثقافة سوف تنمو وتترسخ من خلال الدور الذي تقومون به أنتم أعضاء مجلس عمان في مجال تبادل الرأي وتداول الأفكار وبفضل النهج الحكيم الذي تجلى والذي سوف يستمر بإذن الله في تناولكم لمختلف القضايا بالدرس والتدقيق ولكل الآراء بالتمحيص والتحقيق» - انتهى النص -.

فهذا الحوار الذي يشير إليه جلالته؛ حفظه الله؛» مع مختلف الآراء والحوارات والنقاشات التي تنشد مصلحة هذا البلد ومصلحة أبنائه الأوفياء» وإن كان مؤطرا في حالته الخاصة هذه عبر أعضاء مجلس عمان، فهو أكبر مشروع لرفع سقف التنمية السياسية، وأكبر معزز للتنمية المستدامة التي تسعى الى تحقيقها كل الحكومات في كل بقاع العالم، إذن ثمة حوار لا بد أن يكون، وأن يستمر على جميع المستويات، وهذا التشجيع الذي يأتي من لدن صاحب القيادة لتفعيله على كافة المستويات، فأعضاء مجلس عمان (الدولة والشورى) هم في نهاية الأمر مواطنون، معنيون أكثر من غيرهم في تفعيل سبل هذا الحوار لخدمة التنمية في مناخاتها المختلفة، وبحوارهم هذا المؤطر تحت قبة المجلس، هو في الوقت نفسه، حوار مفتوح وعلني، يمكن أن يحضره أي أحد من المواطنين، وهو مبثوث عبر وسائل الإعلام المختلفة، ولذلك ينظر إليه أحد أهم استحقاقات المحتوى السياسي في أي تجربة تنموية تسعى الى النمو، والتوسع، وتوظيف الخبرات لدى أبناء الشعب.

أما الدلالــة الثانية فإنني أقرأها في خطاب جلالته في الانعقاد السنوي للفترة الرابعة لمجلس عمان 2008م، حيث قال: «ان الأداء الحكومي الجــيد في مختلف القطاعات، وخدمة الوطن والمواطـنين بكل أمانة وإخلاص، ووضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، من الأركان الضرورية لكل تنمية يراد لها الدوام والاستمرار (...) .

وتجدر الإشارة هنا الى انه لما كان الأداء الحكومي يعتمد في إرساء وترسيخ قواعد التنمية المستدامة على القائمين به والمشرفين عليه، فأن في ذلك دلالة واضحة على مدى المسؤولية الجسيمة المنوطة بالموظفين، الذين يديرون عجلة العمل في مختلف القطاعات الحكومية، فإن هم أدوا واجباتهم بأمانة وبروح من المسؤولية بعيدا عن المصالح الشخصية، سعدوا وسعدت البلاد، أما إذا انحرفوا عن النهج القويم، واعتبروا الوظيفة فرصة لتحقيق المكاسب الذاتية وسلما للنفوذ والسلطة وتقاعسوا عن أداء الخدمة كما يجب وبكل إخلاص وامانة، فأنهم يكونون بذلك قد وقعوا في المحظور، ولابد عندئذ من محاسبتهم، واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة لردعهم، وفقا لمبادئ العدل الذي أرسينا عليه دعائم الحكم، والتي تقتضي منا عدم السماح لأي كان بالتطاول على النظام والقانون، أو التأثير بشكل غير مشروع على منافع الناس، التي كفلتها الدولة ومصالح المجتمع، التي ضمنها الشرع وأيدتها الأنظمة والقوانين»- انتهى النص -.

يتحقق مفهوم «المحتوى السياسي» في تقديري المتواضع عبر وسائل وآليات عديدة لا بد من توفرها في أي تنمية، يسعى العاملون فيها الى العمل على استدامتها، وفاعليتها، وهي متضمنة جميع مقومات الحياة العصرية، بدءا من مجموعة القوى المتفاعلة في الداخل المنجزة للمهام والمسؤوليات المنوطة عليها، وانتهاء بمجموعة الاشتغالات الدافعة لتفعيل المصالح مع الآخر، دون أي إفراط، أو تفريط في حق الوطن الأم، ولا ننسى في ذلك المساحة الآمنة التي تعمل من خلالها الوسائل الإعلامية المختلفة، دون أية وصاية من أحد، وإنما تحتكم على قوانين المهنة، ومواثيق الشرف الصحفية، والعقد الاجتماعي القائم بين العاملين في مهنة الصحافة بأنواعها، وبين المجتمع الذي أوكل تجسير وصول صوته الى صاحب القرار، وهي لا تتعارض مع الصوت المتزن والفاعل تحت قبة البرلمان.

وأختم هنا بفقرة جميلة قرأتها لـ (مايكل جونستون) مؤلف كتاب؛ متلازمات الفساد (الثروة والسلطة والديمقراطية) والتي يقول فيها: «إن إشراك المواطنين كقوة فعالة في صياغة الإصلاح، وليس كجمهور متلقٍ للحملات الجماهيرية، يشكل خطوة جوهرية. إن الإعلان عن المعايير شيء، أما معالجة شكاوى المواطنين ومشكلاتهم الناجمة عن الفساد فهو أمر آخر، إذا كان الإفلات من العقاب يمثل إحدى الخصائص الرئيسية لفساد المسؤولين الحكوميين، فإن الإصلاح سيتطلب قوى مضادة مستمرة وفعالة. وستكون الحريات المدنية وحقوق الملكية الواضحة والآمنة خطوات رئيسية، كما يمكن للمنافسة السياسية الحقيقية أن توفر للقيادة التغذية الراجعة».