أفكار وآراء

هيئات وأسواق المال ومكافحة الجريمة الإلكترونية

27 مارس 2019
27 مارس 2019

د. عبدالقادر ورسمه غالب -

[email protected] -

تم تقديم سؤال مباشر لبعض مديري كبار الشركات العالمية، في استفتاء نوعي، عن أهم وأصعب المشاكل التي تقابلهم وستظل عالقة لفترة من الزمن في طريق الشركات. وأجاب الكثير منهم، أن أصعبها يتمثل في المشكلات التقنية وأكثرها خطورة هي الجرائم الالكترونية المتعددة الناتجة عن التقنيات الحديثة. إذن، التقنية والجريمة الالكترونية من المشاكل الحقيقية التي تواجهها الشركات وكل قطاعات البنوك والمال والأعمال، مما يستوجب ضرورة التكاتف لدحر الجريمة التقنية لتجنب المخاطر الخطيرة المرتبطة بها. وفي هذا الخضم، هناك محاولات عديدة تمت وما زالت مستمرة للاصطفاف في وجه الجريمة السبرانية في الأثير الواسع، ومن أهمها إصدار التشريعات النافذة لكبح الجريمة إضافة لوضع الضوابط لضمان تنفيذ وتطبيق هذه التشريعات عبر كل المستويات وخاصة ضباط الالتزام والمخاطر. وما زالت الجهود التشريعية والتنفيذية مستمرة على قدم وساق لشد الطوق حول رقبة هذه الجريمة الحديثة عابرة القارات التي لا تقف عند الحدود لطلب تأشيرة الدخول، بل تدخل مباشرة متخفية في زي خفي أثيري لا يرى بالعين. وهنا مكمن الخطر.

أمريكا، وبالرغم من حرصها وضغطها الشديد في كل العالم للسيطرة على كافة الجرائم الالكترونية، إلا أنها بنفسها تعاني من هذه الجريمة التي تنخر في الاقتصاد الأمريكي لتمتص من دماء الدولار المنتشر في كل الربوع والذي ترمقه كل العيون في تحفز للامتصاص أيضا. وفي كل يوم تستمر الحرب الضروس لهزيمة الطرف الآخر، ولإيجاد المزيد من الضوابط والإجراءات في ميدان المعركة لهزيمة الجريمة الالكترونية أو لكبح جماحها، أصدرت هيئة أسواق المال في أمريكا لائحة تلزم كل الشركات المسجلة في سوق المال بالإعلان والإفصاح التام عن الإجراءات التقنية الحمائية الوقائية لمواجهة الجرائم الالكترونية التي تتعرض لها الشركة. وبجب أن يكون الإفصاح شاملا في أسواق المال وبصفة خاصة لمساهمي الشركة والمستثمرين بغرض منحهم كل المعلومات بكل شفافية وبدون مراوغة أو تمويه. وهذا الإفصاح يجب أن يبين برامج الحماية التقنية الوقائية المتوفرة، لصد الجريمة الالكترونية التي تتعرض لها الشركة، مع التفاصيل التي توضح إجراءات الحماية الاحترازية والفورية التي تمكن الشركة من المواجهة الكافية لهذه الجريمة عبر وسائل الشركة الداخلية أو عبر الجهات الرسمية المختصة بهذه الجرائم والتنسيق معها.

من ضمن الضوابط التي أصدرتها هيئة أسواق المال في أمريكا ضرورة قيام كل الشركات المسجلة في الأسواق بوضع برامج وأنظمة كفؤة ولها المقدرة المطلوبة لتأمين وحماية الشركة تقنيا وأن تكون هذه الحماية متماسكة تماسك الماء حتي لا يخترقها أحد بل وحتى لا يأتي أحد بالقرب منها خوفا من العواقب وما قد يأتيه إذا اقترب من الحرم المصون للشركة. ومن المثير المفيد أن نذكر كمثال، أن هيئة أسواق المال الأمريكية تطبيقا للنظام أخذت بتلابيب «شركة الطابة»، بزعم أنها لم تمنح المستثمرين المعلومات الكافية وقامت بتضليلهم بشأن خروقات تقنية خطيرة تعرضت لها الشركة، وبالرغم من الخطر الالكتروني الكبير الذي تعرضت له الشركة إلا أنها لم تخطر المستثمرين بذلك. وهذه جريمة وفق لوائح وضوابط أسواق المال وكذلك التوجيهات الأخيرة التي صدرت من الهيئة بشأن الإفصاح والشفافية عن كل المخاطر التقنية التي تتعرض لها الشركة. وبعد المفاوضات الشديدة وبموافقة هيئة أسواق المال، تم التوصل لتسوية قامت الشركة بموجبها بدفع غرامة مقدارها 35 مليون دولار. وهناك شركات أخري في القائمة، وهذا دلالة قوية علي ضرورة الالتزام والتنفيذ التام لتوجيهات هيئة أسواق المال وغيرها من الجهات الرسمية.

الجرائم السبرناية الالكترونية التي تتعرض لها الشركات كثيرة، من ضمنها، الهاكرز الإجرامي، اختراق النظام، كشف الحسابات، كشف المعلومات الشخصية للمتعاملين مع الشركة، الابتزاز التقني، تعطيل النظام، انتهاك الخصوصية، التجسس، سرقة المعلومات أو تعديلها وغيره. وكل هذه الجرائم تضر بالشركة وملاكها والمتعاملين معها والمستثمرين.. وهذه الأضرار أيضا تلقي بظلالها علي نشاط الشركة في أسواق المال وكذلك ما ينشأ من ضرر لبقية الشركات المسجلة في أسواق المال وكل المستثمرين، وعامة الاقتصاد الوطني.

ولتحميل الشركات المسجلة المسؤولية، هناك سؤال يطرأ، كيف تحدد الشركة قوة أو مقدرة الحماية التقنية المطلوبة حتى تقوم بها وتفصح عما يحدث لكل أصحاب المصلحة. الإجابة تتمثل في أن الحماية المطلوبة هي تلك الحماية «النسبية» التي يري الجميع أن لها القوة المادية المعتبرة والكافية لحماية الشركة. وبالطبع، هذا الوضع يختلف من شركة لأخرى وحتى من وقت لآخر داخل الشركة. وفي جميع الأحوال، يجب أن تتضمن إجراءات إفصاح الشركة مقدرتها في التحقيق، التقييم للأحداث، وكيفية تصحيح ما يطرأ والإبلاغ عنه.

في نظرنا، هذه خطوات جريئة وسيكون لها مردود كبير لأنها تمثل خنجرا مسلولا لبتر الجريمة الالكترونية، التي تتطلب مواجهتها مثل هذه الخطوات الجريئة عبر هيئات وأسواق المال وغيرها من الجهات الرقابية. ونتطلع للاستفادة من هذه السابقة التي أتت أكلها لجعل التقنية الحديثة نظيفة وسليمة من الإجرام. وهذا قطعا سيغير وجه الاقتصاد وعالمنا الحديث. ونأمل الاستفادة من هذه التجارب، لوقف الغزو الذي تتعرض له شركاتنا ومؤسساتنا العامة والخاصة من الجرائم الالكترونية، وهو غزو منتشر ومبرمج ولا بد من إيقافه بكل الطرق التقنية والقانونية.