أفكار وآراء

التكنوقراطية تحل محل الفلسفة

27 مارس 2019
27 مارس 2019

ديفيد هاويل -

جابان تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

وسط فيضان لا ينقطع من أخبار العالم في الأسابيع الأخيرة كان هنالك خبر بالكاد حصل على تعليق من وسائل الإعلام، لكنه قد يكون أهمها كلها في الأجل الطويل، ورد في ذلك الخبر تعليق من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء وجوده في هانوي.

جاء في التعليق أنه إذا تعاون كيم جونج أون في وقف برنامجه النووي ستساهم أمريكا في تحويل كوريا الشمالية «البلد الذي يعيش في عزلة الناسك» إلى فيتنام أخرى.

هل ذكر (ترامب) اسم فيتنام؟

بالتأكيد لا؟ لا بد أن ثمة خطأ «في هذا الخبر»!

أليست فيتنام هي البلد الذي مات فيه 55 ألف جندي أمريكي قبل نصف قرن تقريبا في محاولة (أمريكية) فاشلة لوقف سقوط «قطعة الدومينو» الفيتنامية في قبضة الديكتاتورية الشيوعية المتمددة؟

أو لم تكن (فيتنام) تماما في خط الجبهة الأمامي لصراع العالم بين الانعتاق والطغيان والحرية واستبداد الدولة؟ لكن لا.

لا يوجد خطأ في الخبر.

فترامب بعقليته التجارية (ومساوماته) الشهيرة كان ينظر إلى ما وراء شعارات الأمس ويفطن إلى ظروف متغيرة تماما على أرض الواقع.

هنالك الكثير الذي يستدعي توجيه النقد إلى ترامب فيما هو يواصل عزف النغمة الشعبوية الواضحة في واشنطن.

لكن ربما أنه في هذه الحالة (التي كشف عنها التعليق المذكور) يرى هو ومستشاروه العالم الحقيقي بوضوح أشد مما تراه جيوش المحللين والساسة الحزبيين والأكاديميين والمنظرين الأيديولوجيين الذين يحبون خوض معارك الماضي البعيد.

فوراء نظرة ترامب للأشياء وربما أيضا النظرة المهيمنة وسط ما لا يقل عن ثلثي البشر الذين يقطنون آسيا الحديثة الناهضة بسرعة تكمن قناعة بأن الصراع العقائدي بين اليسار واليمين انتهى وأن التكنوقراطية (حكم الخبراء) والتقنية هما السائدان الآن.

تطلق الحكومة الفيتنامية على بلدها اسم «الجمهورية الاشتراكية». لكن لديها الآن في الواقع العملي خصائص رأسمالية قوية، لذلك هل هي بلد اقتصاد حر أم اقتصاد اشتراكي مخطط؟

الجواب «لا هذا ولا ذاك».

هل تتجه فيتنام نحو نموذج الديمقراطية واقتصاديات السوق؟

إذا كان هذا يعني حكومة ضعيفة ومتقلبة واتساع عدم المساواة وبطء النمو وتخلف البنى الأساسية وتصاعد الجريمة وكثرة احتجاجات الشارع فالجواب «لا» أيضا.

الحقيقة هي أن قاموس المفردات السياسية لدى المجتمعات والمؤسسات الغربية وفن الجدل السياسي الذي تبلور خلال حوالي القرنين الماضيين لا يمكنهما شرح أنماط الحكم التي تظهر الآن حول العالم.

وببساطة الكلمات التي تعبر عنها لا توجد الآن.

فجماهير الناس التي جرى تمكينها والربط فيما بينها رقميا هي الآن في موقف يجعلها تطالب في إصرار ودوما بنتائج يمكن جدا أن تناقض بعضها البعض لكنها لا تتسق مع التقسيم القديم لليسار واليمين الذي ما زال يشكل معظم الحوارات السياسية.

لذلك فإن أفضل تسمية للهدف الجديد يمكن أن تكون «الحكومة النوعية».

يترجم ذلك الهدف إلى دعوات لتحقيق أفضل تعليم نوعي ورعاية صحية أرقى كثيرا وتوفير مساكن ومساواة حقيقة بين الجنسين ونشر الأمن والقانون والنظام في الشوارع والبيئة النظيفة والمنعشة وإيجاد وظائف للشباب والرعاية للكبار وتأمين إمدادات الماء والكهرباء وحفظ الكرامة واحترام الهوية والتخلص من الفساد الذي هو دائما المؤشر المهلك والكاشف لسوء الحكم.

وحيثما أمكن لأنظمة وحكومات أن تفي بهذه المطالب سيسود الاستقرار السياسي.

وحيثما كان النظام شديد البطء في إدراك أن السلطة الآن لدى الناس فحتما سيتفشى فيروس الاحتجاجات والشعبوية.

هذا يحدث في الغرب ويقينا في أوروبا وأمريكا، فالديمقراطيات المستقرة منذ فترة طويلة تحاول الآن جاهدة فهم والتعامل مع قوى ومهددات غير معهودة تماما، والأحزاب السياسية القديمة التي تشكلت حول محور مجادلات الماضي تتفكك.

حقا لدى آسيا الحديثة مشاجراتها وتحدياتها لكنها أيضا تملك فرصة القفز فوق التجربة الغربية وشق مسارات سياسية جديدة.

ومن الممكن أن نطلق على هذا النموذج الجديد الطالع اسم التكنو-ديمقراطية (نظام حكم التكنوقراط أو الخبراء الفنيين في سياق ديمقراطي- المترجم)، وهو نموذج لا يستلزم وجود دولة قهرية مفرطة في قوتها وقمعها أو دولة أضعف من أن تتولى تنظيم وإدارة حكم القانون في اتساق وحزم.

لم تمت قضايا التحرر والحريات الفردية العظيمة التي أراق الغرب من أجلها الدماء الغزيرة وأنفق الثروات الوفيرة، لكن ينبغي التعبير عنها مجددا بلغة ومفاهيم الأجيال المتعاقبة، وذلك ما أكد عليه فريدريش هايك أحد أعظم المدافعين عن حرية الفرد في ظل النظام القديم في إنجيله الضخم «دستور الحرية».

لكن هايك (1899-1992 اقتصادي وفيلسوف بريطاني نمساوي الأصل اشتهر بدفاعه عن الليبرالية التقليدية والاقتصاد الحر - المترجم) عاش قبل انتشار الهاتف الخليوي والإنترنت وعصر الاتصال والشفافية الذي نشأ عنها.

وهذه الأشياء (التقنيات الجديدة) تعيد كتابة المحصلة بأكملها، فهي تحدد موضعا جديدا لمصادر النفوذ في «نقطة ما» بين الدولة والفرد.

وهي تدفع فيتنام الاشتراكية التي كانت مقسمة في السابق نحو أشكال جديدة من الرأسمالية، ويمكنها أيضا أن تفعل نفس الشيء لكوريا الموحدة (في المستقبل).

بل هي حتى الآن في الصين نفسها تسمح للحكم التكنوقراطي هناك بتمزيق العقائد والنظريات القديمة لحكم الحزب الواحد.

من المستبعد أن يكون ترامب بشيرا بهذا النظام البراجماتي (النفعي) الجديد، فهو على أي حال وحسب كلامه يريد أن ينأى بأمريكا عن أي مغامرات خارجية أخرى.

لكنه على الأقل حين يسافر إلى الخارج يطرح جانبا بعض النظريات والأفكار الدوغمائية (المتصلبة) التي تصيب بالشلل مؤسسات الغرب وتقدمه السياسي، لذلك ربما سيلزمنا أن نشعر لوهلة قليلة بالامتنان (لهذا الرجل).

* الكاتب رئيس لجنة العلاقات الدولية بمجلس اللوردات البريطاني.