1172825
1172825
المنوعات

ربما قام البشـر بترويض أنفسـهم

26 مارس 2019
26 مارس 2019

بقلم: ميلفن كونر -

مجلة ذي أطلنطيك ـ مارس 2019 -

ترجمة: أحمد شافعي -

حينما كنت أدرس لنيل درجة الدكتوراه في أواخر الستينيات، كنا نحن الشباب الأنثروبولوجيين نقرأ كتابا بعنوان «أفكار في التطور البشري» هو عبارة عن مقالات بحثية حديثة آنذاك في المجال. وبالمعهود من غطرسة طلبة الدراسات العليا أعلنت أن الكتاب به «أفكار كثيرة تطارد بيانات قليلة». وبعد مرور نصف قرن واكتشاف آلاف الحفريات، فإن لدينا رؤية للماضي البشري أكثر اكتمالا ـ وإلغازا في الآن نفسه. فلا يكاد سجل الحفريات دائم التنامي يأتي برابط مفقود في السعي إلى البشر الأوائل protohumans حتى يكشف عن رابط مفقود غيره. ولا يظهر في الوقت نفسه خط واحد ليصل هؤلاء الأسلاف بالهومو سابينز «أي السلالة الحالية من البشر» الذين ترجع أصولهم إلى قرابة 300000 سنة. بل إن خطوطا متشعبة ومتوازية تكشف بدلا من ذلك عن تنويعة من أشباه البشر hominids المنقرضة بما لديها من سمات كانت تعد في يوم من الأيام مقصورة على سلالتنا. إذ يتبين على سبيل المثال من آثار لـ«هوبيتس» Hobbits صغار مكتشفة في إندونيسيا سنة 2003 أنهم كانوا يسيرون منتصبي القامات ويصنعون الأدوات، وأن أطوالهم كانت تقل عن أربع أقدام، ويبلغ حجم مخ الواحد منهم ثلث مخ الواحد منا، وأن وجودهم دام إلى أن وصل البشر المحدثون إلى المنطقة قبل قرابة 50000 سنة.

ومع تراكم البيانات تتراكم المفاجآت. إذ تشير مناهج ميكروسكوبية إلى أن آثارا معينة وجدت على عظام عمرها 2.5 مليون سنة قد تكون نتاج آلات حجرية حادة، وكان العلماء يفترضون من قبل أن تلك الآلات ظهرت في وقت لاحق. ويشير الحامض المتراكم على أسنان النياندرتال إلى أن أولئك البشر الأقوياء ذوي العظام القوية (أو هم البشر تقريبا بحسب بعض الخطوط الموازية) ربما كانوا يأكلون مع اللحم شعيرا مخبوزا، والحق أن أولئك الرفاق المشاهير من أكلة اللحوم كانوا يأكلون أي شيء، مثلنا تماما. كما أن حامض الدي إن آيه المستخرج من شظايا عظمية ـ هي على سبيل المثال طرف خنصر عمره آلاف كثيرة من السنين ـ تسلط الضوء على سلالات جديدة كاملة من أشباه البشر الذين كانوا يتهاجنون وإيانا شأن النياندرتال في يوم من الأيام. فلسبب وجيه إذن رسم تشارلز دارون التطور على شكل أكمة لا على شكل شجرة.

لقد باتت دراسة التطور البشري اليوم أمرا يتجاوز العظام والصخور. في عام 1965 ظهر كتاب لافت هو كتاب «سلوك الرئيسيات» لإرفين ديفور (وهو الكتاب الذي قادني إلى الدراسة على يد ديفور). زعم ذلك الكتاب بجرأة أننا لن نفهم أصولنا قط ما لم ندرس باهتمام العالم البري لأقاربنا غير البشريين. هكذا أقامت حفنة من العلماء ـ منهم جين دودول ـ خياما في أدغال وأحراش السافانا النائية. ومضوا يتابعون القردة والقردة العليا وغيرها من الكائنات في مواطنها الطبيعية، محولين ملاحظاتهم ومشاهداتهم إلى بيانات كمية ضخمة. كما كرَّس ديفور وغيره أنفسهم بمثل تلك الصرامة للبقية الباقية من البشر الذين يعيشون على الالتقاط والصيد في كل قارة مأهولة بالسكان باستثناء أوروبا، وهؤلاء هم توائمنا البيولوجيون الذين يعيشون في ظروف مماثلة للتي شهدت تطورنا.

ذلك الجهد ذو الأوجه العديدة كان جديدا وطموحا، لكن الفكرة نفسها كانت قديمة. فقد كان ديفور يعلق على مكتبه مقولة من دفتر داروين ترجع إلى عام 1838: «الآن ثبت أصل الإنسان ... ومن يفهم القرد يخدم الميتافزيقا أكثر من لوك». وتلك مقولة تحيي في الذهن بعض سمات الأنثروبولوجيا الأثيرة عندي ـ التفلسف بالبيانات ـ وتصلح مقدمة مثالية لأحدث أعمال ريتشارد رانغام الذي أتى ببعض من أجرأ وأفضل الأفكار المتعلقة بالتطور البشري.

في كتابه الثالث «فضل المفارقة : العلاقة الغريبة بين الفضيلة والعنف في التطور الإنساني»، يعرض رانغام معلومات رائعة من التاريخ الطبيعي والجينات في ثنايا دخوله إلى النقاش الذي استهله منذ قرون كل من توماس هوبز وجان جاك روسو (وفلاسفة آخرون) ولا يزال إلى حد كبير قائما حتى اليوم: كيف نفهم الاقتران بين العدوان العنيف والسلوك التعاوني لدى البشر؟ لماذا نحن أقل عنفا في حياتنا اليومية داخل مجتمعاتنا (في جميع الثقافات تقريبا) من أقاربنا الأقربين من الرئيسيات والشمبانزي في مجتمعاتهم؟ وفي الوقت نفسه، كيف أمكن للعنف البشري الموجه إلى جماعات الأعداء أن يكون على ما هو عليه من تدمير؟

درس رانغام ـ الذي يقوم بتدريس الأنثروبولوجيا الحيوية في هارفرد ـ على يد جودول وديفور. ويمكن القول إنه كان يعمل في كتابيه السابقين وصولا إلى مغامرته الأحدث، ففيهما كان يستكشف أقطاب السلوك المتقابلة. اشتهر في بحثه الميداني الدقيق لا سيما على الشمبانزي في حديقة كيبالي الوطنية بأوغندا، أظهر رانغام مدى شيوع القسوة بين الشمبانزي. كما اعترفت جودول بأسف واضح أن قردة الشمبانزي الحبيبة إلى قلبها قد تكون بالغة العنف. فقد قامت أنثى وابنتها بقتل صغار إناث أخريات في جماعتهما. والذكور غالبا ما تقسو على الإناث وتضربها، وقد تتعصب أحيانا للهجوم على شمبانزي من جماعة أخرى. في كيبالي تعيش جماعات كبيرة من الشمبانزي معا ويتصاعد العنف بينها تبعا لذلك. وقد لاحظ رانغام أن هذه الجماعات الكبيرة من الذكور تخرج لـ«الحراسة» على نحو يبدو منظما: إذ تسير على حدود المنطقة، وتهاجم الشمبانزي الوحيدة من الجماعات المجاورة حينما يصادفونها في طريقهم. في كتابه الصادر سنة 1996 بعنوان «ذكور شيطانية» ـ الذي شاركه فيه دالي بيترسن ـ أوجز رانغام تلك الأدلة واستخلص منها صورة للإنسانية (في نسختها الذكرية) معتبرا العنف إرثا تطوريا كامنا فيها. وكان في ذلك دعم واضح للرؤية الهوبسيانية للطبيعة البشرية، وهو دعم يضرب بجذوره في جينات البشر.

في كتابه الصادر سنة 2009 بعنوان «إضرام النار: كيف جَعَلَنا الطبخ بشرا»، مضى رانغام وراء فرضية مختلفة تماما. فبناء على أدلة أركيولوجية، أقام الحجة على أن أسلافنا سيطروا على النار قبل زمان كبير مما يعتقد أغلبنا ـ فربما حدث ذلك قبل مليوني سنة لا 800000 ـ فغيّر ذلك كل شيء بالنسبة لهم. إذ مكّنهم الطبخ تحديدا من نيل نظام غذائي أكثر تنوعا متيحا لهم استهلاك ثمار وأوراق وأطعمة نباتية أخرى من شأنها أن تكون سامة في حال أكلها طازجة. كما جعل اللحم أيضا أيسر على الهضم وأكثر أمنا. وكمكافأة إضافية كبيرة، أطالت النار النهار مضيفة إليه بعضا من الليل. وفي ضوء ما نعرفه من أهمية الأحاديث والقصص المروية حول النار بالنسبة للبشر ممن يعيشون على التقاط الثمر والصيد، يسهل علينا أن نرى كيف سارعت تلك العملية من تطور اللغة ـ وهي ما هي إياه كمكون جوهري للتفاعلات غير العدوانية جسمانيا.

في كتابه الجديد يواجه رانغام للمرة الأولى مفارقة العنوان مواجهة تامة. على مدار العقود التي ركز فيها أكثر ما ركز على الجانب المعتم من الطبيعة البشرية، تراكمت الأدلة باطراد على أن البشر منذ فجر تطورهم هم أكثر السلالات تعاونا في عالم الرئيسيات. فحينما نضع القردة العليا والبشر في مواقف تتطلب التعاون بين فردين لتحقيق هدف، وبحسب ما بينت تجارب عديدة، فإن الأطفال الصغار أنفسهم يكونون أفضل من القردة العليا. في الوقت نفسه، اكتمل العمل الكلاسيكي على الشمبانوي بدراسات جديدة على قردة البونوبوس وهم أقاربنا المقربون الآخرون. فليسوا أبعد جينيا عنا من الشمبانزي، ولكنهم النقيض الراديكالي لهم، وغالبا ما يطلق عليهم سلالة «أقيموا الحب، لا الحرب». وقد كشف بعض البحث الميداني أن بعض أقاربنا غير البشريين قادرون على العيش والتطور دونما عنف تقريبا.

يعتمد رانغام على هذا الكنز من المواد في سعيه إلى فرضية طموحة أخرى: «لا بد أن يظهر العنف الارتدادي المتقلص بالتوازي مع الذكاء والتعاون والتعلم الاجتماعي كإسهام أساسي في نشوء سلالتنا ونجاحها» (ويقصد بـ«العنف الارتدادي» الهجوم عند اقتراب فرد آخر أكثر مما ينبغي في مقابل التسامح مع التواصل عبر مسافة كافية تسمح بتفاعل ودود محتمل). كما أنه يطبق المنطق التطوري على دراسات أجريت على نطاق أوسع من الحيوانات. ويعتمد بصفة خاصة على بعض التجارب الرائعة لاستكشاف استئناس الثعالب البرية وحيوانات المينك وغيرها من السلالات من خلال الاختيار الاصطناعي بشري التوجيه على مدار كثير من الأجيال.

يلاحظ رانغام أن تلك الجهود المبذولة في تربية الحيوانات تنتج ما يسمى بـ«أعراض الاستئناس»، وهو عبارة عن تغير يطرأ على جانب من السمات، لا يقتصر على انخفاض العنف الارتدادي الذي أبرزه مربو الحيوانات. فمثلا، في دراسة عن الثعالب بدأت في روسيا في مطلع خمسينيات القرن العشرين كانت الجراء الأقل ميلا في كل بطن (أي من كل مجموعة واحدة من المواليد) إلى العض عند اقتراب البشر منها تنتخب للتربية. غير أن تنويعة من السمات ظهرت بالتوازي مع التربية، ومن بينها الوجه الأصغر والخطم الأقصر وفترات الخصوبة الأكثر (وغير المحصورة موسميا) كما هو الحال في بعض الحيوانات الأخرى المستأنسة منزليا.

وقردة البونوبوس التي اهتم بها رانغام في معرض دراسته تأتي بالكيفية المحتملة لانتخاب تقلص العنف في تطور البشر. كانت قردة البونوبوس تعد من قبل فصيلة من الشمبانزي لكنها الآن تعد سلالة مختلفة. تذهب الرؤية المعيارية إلى أنها قد انفصلت عن الشمبانزي قبل ما بين مليون سنة ومليونين، وعزلت جنوبا عند منحنى في نهر الكونغو. تشكل إناث قردة البونوبوس تحالفات قوية قائمة جزئيا على الجنس في ما بينها وتمثل وقاء من عنف الذكور. وينطلق هرمون أوكسيتوسين المعروف بـ«هرمون الثقة» خلال الجنس الأنثوي: ويمكنكم القول إن شريكات الجنس يكن منتشيات بالثقة. ولأن الإناث هن اللاتي يدرن الأمور فإن الذكور لا يهاجمونهن، بل إن عنف الذكور مع الذكور محدود بصورة فائقة. كما تظهر في قردة البونوبوس سمات مشتركة مع أعراض الاستئناس بما يشير ـ كما في حالة الثعالب ـ إلى أن ديناميكيات التربية الجينية تكون فاعلة فيهم.

يقبل رانغام الإجماع على جذرية الاختلاف بين قردة البونوبوس والشمبانزي، جينيا وتطورا. وتفسيره المتميز للتشعب بين السلالتين يعكس دراسته لعلم البيئة، فلقد درس أن الواقع البيئي ـ على مدار أجيال كثيرة ـ يخلق سلوكيات محددة لكل سلالة. ويشير في حالة قردة البونوبوس إلى أن الموطن السخي حماها من التنافس سواء مع الشمبانزي أو الغوريلات ووبها رفاهية تقليل عنفها الارتدادي. وثمة أمثلة أخرى على الاستئناس الذاتي غير البشري في العالم البري، ومن ذلك قرد كولوبوس الأحمر في زنجبار وهو عبارة عن سلالة تشعبت من قردة كولوبوس الحمراء في داخل القارة بطرق مماثلة في ثنايا عزلتها بالجزيرة ولكن قردة البونوبوس أقرب لنا وأوثق صلة.

■ ■ ■

الحق أن نظرية رانغام الخاصة بالتطور البشري الناجم عن الاستئناس الذاتي لها امتداد عتيق: فالفكرة الأساسية اقترحها تلميذ لأرسطو يدعى ثيوفارستوس وأثارت الجدل مرات عديدة خلال القرن الثامن عشر. وهذه النسخة الأحدث قدرها أيضا أن تثير الجدل، ولكن هذا حال النظريات الجريئة وما يفترض أن تفعل. وليس رانغام بشيء ما لم يكن جريئا وهو يضع المفارقة في عنوانه نفسه. فبحسب روايته، يكمن الجانب المعتم من الطبيعة الإنسانية في تطور التناغم المجتمعي.

وتحتل موضعا مركزيا في حجته فكرة تذهب إلى أن القتل التعاوني للأفراد ذوي العنف المتأصل قد لعب دورا مركزيا في استئناسنا لأنفسنا. ومثلما استبعد العلماء الروس جراء الثعالب الشرسة من نطاق التربية، كان أسلافنا يقتلون الرجال المدانين في أعمال العنف المتكررة. مؤكدا أن فرق الإغارة الذكرية كان لها وجود في بعض جماعات البشر، بقصد الإغارة على القرى المجاورة وقتل الضحايا منها (وهو ما يذكرنا بعسس الشمبانزي التي تناولها رانغام في موضع أسبق من بحثه). ولكن الانعطافة في نظريته الحالية تكمن في أن هذه الكمائن متجهة إلى الداخل، لحماية الجماعة من أحد أفرادها: فهي تمثل ما يشبه حكم الإعدام. وقد أورد رانغام عددا من الأمثلة لعلماء أنثروبولوجيا شهدوا جماعة من الرجال يتعاونون على قتل رجل عنيف وسطهم.

الفكرة آسرة، وصحيح فعليا أن البشر من جامعي الثمر والصيادين ممن تخلو مجتمعاتهم من الحكومات تقوم أحيانا بصورة جماعية بتصفية العناصر السيئة. ولكن هذه الأفعال نادرة مثلما أكد عالم الأنثروبولوجيا الكندي ريتشارد لي في دراساته المسهبة للكونغ ومنها ورقة خاصة بحالة غير عادية: بعد أن قتل رجل معين شخصين على الأقل، كمن له رجال عديدون وقتلوه. والسنتان اللتان قضيتهما مع الكونج تشيران إلى عملية انتخاب محتملة وأكثر ضراوة في استئصال العنف: الاختيار الأنثوي. فالنساء في أكثر جماعات الصيد والتقاط الثمر ـ مثلما تعلمت من واقع خبرتي الميدانية ـ أقرب إلى المساواة مع الرجال من النساء في غيرها من المجتمعات. ويشير المنطق التطوري إلى أن الشابات وآباءهن ـ باختيار الأزواج الأقل عنفا على مدار الأجيال ـ يمكن أن يفرضوا ضغطا انتخابيا مطردا بهدف تقليل العنف الارتدادي ـ وهو ضغط أكثر اطرادا مما يمكن أن تبلغه دراما حكم الإعدام بين الحين والآخر. (قد يبدو أن تحالفات البونوبوس الأنثوية تحقق نفس الوظيفة الاستئناسية).

وعلى الرغم من تهوينه من قصة التدمير الذاتي الاستئناسية هذه، فإن رانغام أبرز لغزا قائما في جوهر التطور البشري، وذكرنا بالطبيعة ذات الحدين لفضائلنا ورذائلنا. فهو يخلص إلى أن «الطبيعة البشرية أشبيه بهجين الكمير (الأسطوري)» في إشارة إلى الهجين الأسطوري والبيولوجي في الكائنات المهجنة جينيا. وفي تأمل ختامي لزيارة قام بها في 2017 إلى بولندا يكتب قائلا: «لقد سرت حول أوشفيتز، فأمكنني أن أستشعر الكمير في أفضل حالاته وأسوئها». هنالك أدرك أن العنف والفضيلة ليسا نقيضين، بل هما حليفان قويان لا يمكن الاعتماد عليهما طول الوقت. ويلاحظ بخصوص آلية القتل الجماعي البشرية السلسة الفاعلة أن «الكثير من التعاون قد يكن خيرا أو شرا». ومن أجل أن نحمي أنفسنا من الخطر الذي ينشأ الآن بالدرجة الأساسية من ميولنا وأفعالنا نفسها، فإن هذه الحكمة ذات العينين المبصرتين هي بلا شك ما نحتاج إليه.

كاتب المقال هو أستاذ الأنثروبولوجيا والبيولوجيا السلوكية في جامعة إيموني ومؤلف كتاب «تطور الطفولة».