أفكار وآراء

المفاهيم المطلقة والحقائق النسبية

24 مارس 2019
24 مارس 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

إن صور المفاهيم المطلقة هي لا تخرج عن كونها مفاهيم متوارثة تتلقاها الأجيال؛ في فترات بناءاتها الفكرية المختلفة؛ عبر ممارسات يقوم بها من سبقهم، ولكن لا تلبث أن تتلاشى شيئا فشيئا خلال مراحل تدرج البناءات الفكرية ذاتها، حيث تدخل هنا عوامل التأثير والتأثر فتربك هذه القناعات مع مرور الزمن، وتفككها.

نعيش بين مأزقين على درجة كبيرة من الأهمية، أحدهما يذهب بنا الى المفهوم المطلق الى الكمال المطلق، الى القوة المطلقة، فكل شيء نقيسه بهذه الرؤية؛ وهي رؤية مجانبة للصواب؛ لأنها تتناقض مع الواقع الذي نعيشه، ونتفاعل معه، حيث لا وجود لأي جهد إنساني يصل مستواه من الإنجاز أو الإخفاق الى نسبة (100%) وأما المفهوم الآخر فهو الذي ينيخ رحالنا عند مفهوم النسبية، حيث إن هناك مساحة متسعة تبدأ من (0 -100) وفي هذه المساحة المتسعة تكون كل اشتغالاتنا مرهون نجاحها وتميزها بما تتحصل عليه من أرقام محصورة بين (0 -100) في كل جهد ننجزه.

وعندما أصف المسافة الفاصلة بين المفهومين بأنها «مأزق» لأن الثقافة الجمعية التي تتربى عليها الأجيال هي ثقافة المطلق؛ غالبا؛ ولذلك ينظر؛ وفق هذه الثقافة؛ إلى المتحقق النسبي، على أنه لا يلبي الطموح، ولا يساعد على النقلة النوعية من مستوى الصفر الى مستوى الـ (100) بضغطة زر، والإشكالية الحادثة هنا، هي حالة الشلل؛ أن يجوز التعبير؛ فلا قدرة مطلقة قادرة على أن تصل بالعمل الى مستوى الـ (100) ولا هي مقتنعة بالسير حثيثا وفق استحقاقات النسبية المنطلقة من نقطة (صفر الى مستوى الـ 100) وبذلك تضيع الجهود، وتتقزم المعنويات، لأن مجموعة ضغوط الثقافة الاجتماعية المرتكزة على الفهم المطلق لا تساعد على الحلحلة، لتعطي نفس الخروج من هذه الإشكالية، أو هذا المأزق حسب التعبير السابق.

كنت أتساءل؛ قبل القدوم على مناقشة هذا الموضوع «المفاهيم المطلقة...» عن سر وجود مفاهيم يرددها الناس مثل البيئات الخاملة، والبيئات الرمادية، والبيئات الظلّية، وأقول تجثم مثل هذه المفاهيم في الذاكرة الجمعية عند الناس؛ أيعقل أن لا تكون صورة مجموعة الإشتغالات التي نقوم، ومجموعة السلوكيات التي نمارسها، ومجموعة الانفعالات التي تنتابنا غير واضحة الى هذه الدرجة، حتى نحجز لها مساحة: خاملة، أو رمادية، أو ظلّية، حتى نجد لأنفسنا العذر لكي نتخندق في أي واحدة منها؟ بينما واقع الحال غير ذلك تماما، ونتيجة لتوغل مثل هذه الصورة في ذاكرتنا؛ بحكم الإيمان بوجودها؛ نصطدم في واقع حياتنا اليومية بالكثير من الأشياء المبهمة، ولا نجد لها تفاسير قياسية محددة، وهذا الاصطدام نواجه به في بيئات الأسرة، حيث سلوك الوالدين امام أبنائهم، وسلوك المسؤول في بيئات العمل، وسلوك الفرد في البيئة الاجتماعية، والسلوك العام في البيئة الدولية، حيث تظل تنشط هنا الصور الخاملة، والرمادية، والظلّية، فلا تستطيع بعد ذلك أن تتخذ موقفا محددا يصل بك الى قناعة القيمة المطلقة الـ (100%) ولا يتيح لك الاطمئنان للعيش في المساحة الممتدة ما بين (صفر الى 100) لأن حالة الإبهام التي تعيشها لا تقر لك الاستقرار لتتخذ موقفا محددا.

يقال دائما: «لا توجد منطقة منزوعة السلاح» وأتصور حتى في الفهم العسكري يوجد شيئا من الوجاهة بخصوص هذه المقولة، لأن نزع السلاح معناه فهما مطلقا لخلوه من هذه المنطقة أو تلك، ولأننا لسنا عسكريين، فإن السلاح هنا؛ حسب الفهم؛ كل شيء من شأنه أن يسبب خطورة ما على الفرد، في أي بيئة يكون، بمعنى أنه ليس هناك اطمئنانا مطلقا لأي خطر زائل، فبقدر وجود نسبة ما من خطر ما، هو ما يجعلنا نعيش نسبية الأشياء، وعدم الاتكاء على نسبية مطلقة في كلا الجانبين: وجود خطر دائم، أو عدم وجود خطر دائم، والإتيان هنا؛ بمثال الخطر؛ لعموم الفهم، وليس لخصوص السبب، والفهم العام، أن حياتنا دائما معرضة لخطر ما، مهما أخذنا بوسائل السلامة في حياتنا اليومية، وهذا أمر لا يجادل عليه اثنان، كما أعتقد، وربما أكون مخطئا أيضا، وهذا الفهم هو ذاته الذي يأخذنا الى فهم البيئة الفاشلة؛ فشلا مطلقا، والبيئة الناجحة؛ نجاحا مطلقا؛ فواقع حياة البشر لا يؤمن بهذا المفهوم المطلق في أي بيئة كانت، ويؤكد أكثر على وجود المفهوم النسبي للأشياء، ولذلك أعجب أشد العجب على ردات الفعل التي تحدث من كثير مسؤولي المؤسسات عندما؛ على سبيل المثال؛ ينتقد ناتج المؤسسة، وما يشوبه من قصور في بعض جوانبه، فإذا بـ «عقيرة» المسؤول يصل حممها الى أقصى درجات الانفعال، وربما تعلن حالة الطوارئ في تلك المؤسسة، وحالة الطوارئ هذه ليس لإصلاح ما أفسده الموظف في المؤسسة، وإنما للرد بمكيالين على هذا الذي تجرأ وهتك عرض المؤسسة بانتقاده هذا، وكأن هذه المؤسسة تمثل الحالة المطلقة في كل اشتغالاتها، وفي كل العاملين فيها، وأنهم ليسوا بشرا تنطبق عليهم حالات الضعف، ومجانبة الصواب، وارتكاب الأخطاء، وتجاذبات الذات المختلفة و(خائنة الأعين وما تخفي الصدور).

ومن هنا تتعزز ثقافة السكوت عن الأخطاء، وعدم إثارة مواقف الإخفاقات، لأن هذا كله؛ حسب الفهم المطلق لدى بعض أفراد المجتمع؛ من شأنه أن يقزّم الجهود المطلقة، ويربك القناعات بوجود المفاهيم النسبية في أي عمل إنساني، ولذلك تتأصل هنا أكثر وأكثر ثقافة جلد الذات، وأشد ما يؤلمني؛ حقيقة؛ شيوع هذه الثقافة «جلد الذات» في الذاكرة الجمعية العربية، بشكل عام، التي تستحضر كل مشاكل العالم وقضايا فتسقطها على واقعها العربي، وأقرب مثال هو الهجوم المسلح على مصليي مسجديي نيوزيلاندا، حيث تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي كميات من صورة جلد الذات لهذا الإنسان المسلم، الساكن عن موقع الحدث آلاف الكيلومترات، حيث يحمل نفسه حقيقة ما حدث، مع أن ما حدث ليس هو الأول من نوعه، وفي بلدان عربية ومسلمة بـ «امتياز» راح ضحيتها بمثل هذه الأعداد وأكثر، ولذلك وبهذا التصور الذي أبداه البعض تجاه هذا الحادث، ليس فقط من أثر ما نتج عنه هذا الحادث، ولكن لأن النفس العربية أدمنت؛ الى حد كبير؛ مسألة جلد الذات، ولأنها لا تؤمن بالصورة النسبية، حيث تربت على المفهوم المطلق في كل شيء، وهذا ناتج بدوره عن تلبس الصور النمطية، فهناك؛ حسب الفهم؛ جهد كامل، مسؤول كامل، أفراد لا يخطئون، ممارسات سلوكية لا تشوبها الأخطاء، علاقات يجب أن تبقى على مستواها المطلق دون مراجعة، مرجعيات وجاهية ووظيفية يجب أن تبقى على مستوى تدرجها الأعلى، منهجيات متوارثة في السلوك يجب أن تبقى، لأن المراجعة في كل ذلك معناه العودة الى الحالة النسبية، وهذه النسبية تخضع؛ عندها؛ لاعتبارات كثيرة هي واقع الحياة الحقيقية، فلا استسلام ولا تسليم بالمطلق البتة.

والسؤال هنا أكثر؛ ما المخرج من هذا المستنقع الذي يبدو، وبعد مرور كل هذا العمر الإنساني لا يزال يتموضع ويزداد ثباتا وتشعبا؟ هنا ربما تأتي المراهنة على الزمن؛ فعلى الرغم من أن الزمن أكبر ممول للاستبداد بفعل تأصيل القناعات؛ إلا أنه في المقابل هو أكبر مربك للقناعات، وأكبر مخلخل للبناءات، لأنه يعطي؛ بفعل حركة الإنسان في هذه الحياة، الفرص الكثيرة للمراجعة ولخلخلة القناعات أيضا، والإنسان بحكم نمو وعيه من أثر ممارساته في الحياة بظروفها المختلفة يتاح له هذه الفرصة لمراجعات كثيرة، وإعادة النظر في قناعات وبناءات مختلفة تكونت خلال مسيرة حياته الممتدة، ففي هذه المراجعات يستطيع أن يجد أن الكثير مما هو مطلق يمكن أن يخضعه للمسألة النسبية، فلا خير مطلق، ولا شر مطلق، ولا صحة مطلقة، ولا مرض مطلق، وتبقى حالة الموت «الفناء» هي الوحيدة التي تأخذ حكم المطلق، ولا جدال حولها أبدا، فهذه من أمر الله (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي).

أختم هنا؛ بالقول: إن صور المفاهيم المطلقة هي لا تخرج عن كونها مفاهيم متوارثة تتلقاها الأجيال؛ في فترات بناءاتها الفكرية المختلفة؛ عبر ممارسات يقوم بها من سبقهم، ولكن لا تلبث أن تتلاشى شيئا فشيئا خلال مراحل تدرج البناءات الفكرية ذاتها، حيث تدخل هنا عوامل التأثير والتأثر فتربك هذه القناعات مع مرور الزمن، وتفككها، وفي بحثها هذا المستمر، تصل الى حالة من التوازن وبناء قناعات جديدة الى أقرب الى الإيمان بأن كل ما في الوجود هو خاضع للمسألة النسبية الى حد كبير، وهو الوضع الطبيعي لواقع الحياة.