أفكار وآراء

صراع الدوجمائيات أو سلام العالم المفقود

22 مارس 2019
22 مارس 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ما هذا الجنون الذي يجتاح العالم في نومه ويقظته وفي حله وترحاله، وهل سيمضي العالم إلى أبعد من ذلك، ليعود مرة جديدة إلى داخل أطر الحروب الدينية والعقائدية تلك التي عرفتها البشرية في القرون الغابرة، وتركت أسوأ الأثر في أضابير التاريخ ولا تزال تجرح القلوب والعقول مرة واحدة؟

ليس سرا أن دافع السؤال السابق هو الحادث الأليم الذي جرت به المقادير في نيوزيلندا قبل بضعة أيام من اعتداء غاشم على مصلين في احد مساجد مدينة «كريست تشيرش»، وأدى إلى عشرات القتلى والجرحى دفعة واحدة، ولولا رحمة الله لربما كان القاتل قد تمكن من إيقاع عدد اكبر من الضحايا في صفوف المسلمين هناك.

هل هي الأصوليات المتحجرة واليمينيات المتطرفة التي ارتفعت أصواتها حول العالم منذ عقدين تقريبا هي السبب الرئيسي في هذا الوباء الفكري الذي لا ينفك يضحي كارثة تحل بالإنسانية في حلها وترحالها؟

ما جرى في نيوزيلندا تفكيكه أمر واجب، ذلك لأنه يطلعنا على قادمات الأيام وما فيها من فخاخ غير مسبوقة، وبعض من تفاصيل الحادث صوتية وأخرى مكتوبة وثالثها مرئي.

حين كان « تارانت» القاتل يمضي لتنفيذ عمليته، كان يستمع إلى أغنية اسمها « صربيا القوية»، الأمر الذي يدعو القارئ إلى التساؤل ما الذي جاء بصربيا البعيدة جغرافيا وديموغرافيا بآلاف الأميال إلى نيوزيلندا ذلك الركن القصي من العالم ؟ تشير الأغنية ذات الملامح والمعالم العنصرية إلى معركة فيينا التي جرت عام 1683 ميلادية، والتي كانت بمثابة نهاية سيطرة الخلافة العثمانية على أوروبا، وانتصرت فيها القوات البولندية الألمانية النمساوية بقيادة ملك بولندا سوبياسكي على جيش الدولة العثمانية بقيادة الصدر الأعظم الوزير قرة مصطفى باشا قائد القوات العثمانية.

الأغنية عينها أعاد الصرب تصويرها والاستماع إليها في تسعينات القرن المنصرم، واستخدمت كنوع من أنواع الدعاية لصرب البوسنة في مواجهة المسلمين والكروات في يوغسلافيا السابقة، وكانت تمتدح سفاحا آخر وتذكره بالاسم هو «رادوفان كاراجيتش»...

هل هي أشباح الماضي التي تسعى للاستفاقة مرة جديدة لتدخل العالم في مواجهات دوجمائية ضروس، تتخطى الحدود الجغرافية وتضحي نموذجا عابرا للحدود؟

يحتاج الجواب إلى وقفة فلسفية أمام كارثة الدوجمائيات، فهي التي ولدت من رحمها علامات الكراهية، ونظريات التطرف الفكري السياسي، وليس سرا أنها ولّدت لأوروبا تحديدا تيارين قاتلين النازية والفاشية، وكلاهما أوقعا خسائر جمة حول العالم تجاوزت اكثر من سبعين مليون قتيل بخلاف الخسائر الاقتصادية التي احتاجت إلى عقود طويلة للتعافي منها.

باختصار غير مخل تعني الدوجمائية الإيمان بالقيم المطلقة، وامتلاك الحقيقة الكاملة، ومن يختلف مع أصحاب تلك الحقائق يضحي العدو بالضرورة، ومن هنا ينشأ التنازع والتشارع بين أصحاب الأيديولوجيات السياسية وهذه عادة تقبل التسارع والتنازع وصولا إلى الحلول الوسط، ولهذا يمكن عقد مقاربات سياسية، تقود إلى اتفاقيات جوهرية بين المختلفين، والمتحاربين.

غير أن القابضين على الحقائق المطلقة عادة ما يرفضون أي وسطيات، ويسعون إلى الكمال المطلق، وهي قيمة فلسفية لا يمكن بحال من الأحوال أن توجد على الأرض، فحياة المرء موجات من القبض والبسط، من المد والجزر، الانتصار والانكسار، الفوز والهزيمة، ومن هنا تبدو مسألة الإيمان المطلق أمر ينافي ويجافي مسالة محدودية العقل البشري.

احد افضل العقول العربية المعاصرة التي قدمت لنا شروحات وطروحات عقلانية لأزمة الأصولية الحديثة يأتي الفيلسوف المصري المعاصر الدكتور «مراد وهبة»، والذي أشار في اكثر من عمل فكري راقي المستوى له إلى انه حيث تنتشر الأصوليات تتضاءل وتتقزم إمكانيات العيش المشترك، فالأصولي دائما وأبدا ما يسعى إلى عزل وإقصاء الآخر بعيدا، وهي مرحلة تبدأ فكريا في الأذهان وتمتد لاحقا إلى الواقع المادي، عبر الإقصاء الحرفي الجسدي أي القتل كما رأينا في نيوزيلندا.

يكمن خطر الأصوليات الدينية في أنها مطلقات، والمطلقات بالضرورة في حالة صراع إن لم تكن في حالة حرب، لأن المطلق بحكم تعريفه هو واحد بالضرورة ومن ثم فهو لا يقبل التعدد، وإذا تعدد فان مطلقا واحدا هو الذي يشتهي أن يسود، ومن شأن تحقيق هذه السيادة اشتعال الحروب.

وعلى الجانب الآخر لا يمكن أن تكون الشعبويات إلا ضربا من ضروب التطرف الأحمق المغالي في مواقفه السياسية والعقدية، حمق يستدعي من رحم الماضي رسائل ملغومة بالكراهية ومغلفة بالحقد، فعلى سبيل المثال كتب قاتل المسلمين في نيوزيلندا على الأسلحة التي استخدمها في جريمته المقيتة عبارات عنصرية من قبيل «أكل الأتراك»، ما يعني فناءهم، واستحضر كذلك رموزا للحروب الدينية من باطن التاريخ مثل الفرنسي «شارل مارتل» صاحب معركة بواتييه الشهيرة على أبواب فرنسا، والمعروفة باسم «بلاط الشهداء»، عطفا على مجموعة من الأسماء لمتطرفين يمينيين آخرين بعضهم ارتكب مذابح مشابهة ضد لاجئين جلهم مسلمين في كندا وآخرين في إيطاليا.

هل هي إذن دورة شعبويات قاتلة تلف العالم بعد موجة من الأصوليات الداعشية القاتلة؟

هناك ما يسترعي الانتباه قبل الجواب، فقد جاءت حادثة نيوزيلندا الأخيرة في وقت مثير تتراجع فيه بقايا داعش، وقد سحقت ومحقت عسكريا إلى أبعد حد ومد، ولم يتبق منها إلا جيب صغير في منطقة الباغوز السورية، ومصيرها يكاد يكون محتوما، والاهم من اندحارها اللوجستي، هو أنها خسرت الفكرة التي قامت عليها في الأصل.

هنا يعن لنا أن نتساءل:«هل من شخصية أو هيئة، جماعة أو دولة، لها مصلحة ما في ان تعطي الدواعش ومن جديد قبلة الحياة لتعود قوية فتية وتكسب المزيد من الاتباع لتكتمل الدائرة من جديد وبإرهاب اشد خطورة مما قبل؟

يبدو من الطبيعي للغاية أن تكتسب التيارات الأصولية المتطرفة داعمين ومريدين جددا حول العالم بعد حادثة نيوزيلندا، وسيجد البعض ذرائع عديدة يقدمونها للمتطرفين من اجل إحياء نيران الأصوليات في العقول والقلوب.

الكارثة التي نحن بصددها لا تتوقف عند حدود ما جرى في نيوزيلندا، إذ أن المخاوف من أن يمضي ما يسمى «سلسال الدم»، من جديد حول العالم، إذ المتوقع ومن الأسف أن نستمع في أي لحظة وأخرى في قادم الأيام لأخبار عمليات إرهابية انتحارية تسعى للثأر مما جرى في نيوزيلندا، وبهذا يدخل العالم برمته في دائرة مهلكة من الفعل ورد الفعل، فالدماء تستجلب دماءً إلى اجل غير مسمى.

ضمن سياقات التحليل لفهم أبعاد الظاهرة الشعبوية، يرصد المرء بعض الآراء التي تتناول فكرة ردات فعل الخوف من الآخر، والآخر هنا تحديداً هو العربي أو المسلم، ورغم انفتاح القارة الأوروبية على العالمين العربي والإسلامي منذ قرون بعيدة، إلا أن ظاهرة المد الأصولي التي ضربت في جنبات المنطقة بنوع خاص خلال العقود الأخيرة، ولدت ردات فعل أبرزت من دور وحضور الأحزاب الشعبوية في القارة الأوروبية.

يسعى الأصوليون الذين ذهبوا إلى أوروبا في طريق مشروع أحادي الفكر والتوجه، وعليه كان ولابد من نشوء وارتقاء مشروع مقابل، الأمر الذي يرصده بكفاءة الباحث الإيطالي «توماس فيرجيلي»، مدير البرامج في المؤسسة الأوروبية للديمقراطية في إيطاليا، وعنده أن الإيديولوجيات الشمولية على اختلافها تقوم على الولاء المطلق، مقابل الخوف من الآخر، وغياب التنوع بأي صورة من الصور. وتزيد هذه الإيديولوجيات التي تنتشر وتتمدد أكثر وأكثر من تفشي التطرف.

يتساءل «توماس فيرجلي»: «لماذا يتم تجاهل التهديد الذي يمثله التطرف الإسلامي في بعض الأحيان؟

ويجيب بالقول: «إن بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة تمكنت من تصوير نفسها كمعبر وممثل عن التيار الإسلامي المعتدل، فيما يرى آخرون أن بعض الجماعات الإسلامية في أوروبا اليوم كانت سبباً مباشراً في دفع الشعبويات للإمام، فبعضها يتخذ ظاهرة الكف ظاهرياً عن استخدام العنف البدني، أو الحديث بعنف لفظي، من أجل كسب تعاطف واستقطاب فريد من المؤيدين لهم بين الناس، إلا أنهم في الوقت ذاته يحتفظون في صدورهم وقلوبهم بذات الأفكار الأحادية والاستبدادية.

ولا ينسى المنظّرون في واقع الأمر للشعبويين الأوروبيين الوقوف أمام مشهد مهم للغاية وهو العمليات الإرهابية البشعة التي جرت الأعوام الماضية على الأراضي الأوروبية، ودفعت قطاعات عريضة من الأوروبيين المصنفين في خانة المعتدلين للتصويت لصالح الشعبويين.

هل يمكن القطع بأن أوروبا فقط هي التي ضربها فيروس اليمين الشعبوي المتطرف إلى حد التعصب والمتزمت إلى حد نفي الآخر؟

خالف الحقيقة أن تناسينا أو أغفلنا ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية بنوع خاص، سيما وأن الأرضية الذهنية، والمرتكزات الفكرية لهذا التيار قائمة في الولايات المتحدة الأمريكية بحضور أكبر وأقوى مما هو الحال في أوروبا... والتساؤل لماذا؟

الجواب بدون اختصار مخل يتصل بالهوية، فأوروبا ومنذ القرون الحديثة نسبياً جعلت الحدود الفاصلة بين الديني والسياسي واضحة للغاية، وإن كان البعض يعيب عليها أنها دخلت مرحلة «العلمانية الجافة»، وهذه بدورها المكافئ الموضوعي لـ«التطرف والأصولية الظلامية».

أما في الولايات المتحدة الأمريكية فالمشهد على خلاف ذلك، لأن أمريكا للذين يعلمون بواطن أمورها دولة علمانية الهوية، ودستورها لا يتقاطع مع الأديان بشكل مباشر، لكن ذلك لا ينفي أن الولايات المتحدة، دولة مغرقة في الهوى الديني، وبامتياز غير مسبوق، وهذه قصة تعود إلى زمن الهجرات الأوروبية الأولى من القارة العجوز إلى الأراضي الجديدة أي أمريكا، والسؤال الآن هل ضربت الشعبويات التي هي أقرب إلى الفاشية الولايات المتحدة؟

يحتاج الجواب في الحالة الأمريكية إلى رؤية تحليلية قائمة بذاتها وحديث مطول منفصل، وإلى حين ذلك فان الاستنتاج الذي يبدو جليا الآن وبقدر فائق من الوضوح هو أن الديمقراطيات الغربية أمام استحقاق تاريخي ومفصلي، فإما التمسك بالأنساق الإنسانوية التنويرية، الديمقراطية الليبرالية، رغم سلبياتها المعتادة، أو ترك الساحة فارغة للشعبويين الذي يدعون أنهم وحدهم القادرون على الوفاء بالوعد الأصلي للديمقراطية والمتمثل بتحقيق الأتونوميا الجمعية وهم عاجزون عن ذلك.