إشراقات

النظافة :مجتمع خالٍ من الأمراض

21 مارس 2019
21 مارس 2019

النظافة تعني التخلص من كل الشوائب الضارة وبذلك تكون تخلصت من كل سبب يؤدي إلى السماح لأي متطفل مؤذ ناقل للأمراض أو مسبب لها، وهذا معروف، أن النظافة وقاية من الأمراض. وهذا يتجلى في أن أماكن تجمع القاذورات بيئة خصبة للروائح المنتنة وتكاثر الجراثيم المعدية وتكاثر البعوض والذباب؛ وبالتالي النظافة تقطع السبيل على كل هذه الطفيليات المؤذية من أن تظهر أو تكون موجودة.

وعلى المستوى الشخصي، يسبب إهمال النظافة إلى تراكم الجراثيم والبكتيريا الضارة لذلك كان الأمر لقص الأظافر، وتصوير أن تحت كل ظفر شيطان؛ الهدف منه التنبيه على خطورة طول الأظافر وما تخفيه تحتها من جراثيم. كما أن حلق العانة وإزالة شعر الإبط أيضاً؛ من أجل أن لا نجعل فرصة لتراكم الجراثيم والأوساخ المؤذية. والأمر بالسواك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أنني أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»، أي خمس مرات في اليوم والليلة؛ لأن الفم مع عدم العناية الفائقة بتنظيفه يكون بؤرة كبيرة للجراثيم الضارة.

قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «نظفوا أفنيتكم ولا تتشبهوا باليهود»، يدل دلالة واضحة على أن نظافة البيت داخلياً وخارجياً مهم جداً. وذلك أن تراكم الأوساخ في ساحات البيت الداخلية يكون بمثابة الفرصة السانحة لكل ما من شأنه الإضرار بصحة الإنسان، فتكاثر الذباب الناقل للأمراض الخطيرة، ونشوء بيئة خصبة لتوالد وتكاثر البعوض الذي ينقل أخطر الأمراض، وأيضاً الجراثيم والبكتيريا الضارة تكون من ضمن حزمة الأوساخ والقاذورات. لذلك النظافة هنا وقاية وصحة وراحة نفسية.

تلازم عدم العناية بالنظافة بالأمراض واعتلال الصحة نتيجة طبيعية؛ لكونها معادلة متكافئة وأيضاً نتيجة تتبع المسبب على الدوام، فالحشرات الضارة والجراثيم لن تنمو أو تتكاثر في بيئة نظيفة لأنه ليس لها مكان، لا من ناحية الاحتضان كبيئة، ولا من ناحية الغذاء الذي تنمو عليه أجسامها. فالبيئة غير النظيفة هي مرتع خصب ومسبب رئيسي لسلب الصحة والعافية من الفرد؛ فالبعوض، على سبيل المثال، دراكولاً من الدرجة الأولى، حيث يمتص دم الإنسان والحيوان ويتغذى عليه، وبالمقابل ينقل الأمراض. والذباب تجده يحط على الأطعمة المكشوفة وأيضاً ينقل الأمراض ويقض مضاجع الآمنين بسبب تواجده باستمرار في البيئة المحيطة بالإنسان، فهو ملازم له يؤذيه باستمرار.

الثقافة الصحية تساهم بقدر كبير في توجيه الأفراد والجماعات إلى كيفية التصدي للظواهر الخاطئة في التعامل مع الواقع، من ناحية بيان أن يكمن الخطر الناتج عن عدم العناية بنظافة الفرد الشخصية. في السبعينيات ومطلع الثمانينات، كانت تنتشر أمراض التراخوما والملاريا كأمراض شائعة، وذلك بسبب عدم العناية بالنظافة.

واليوم مع تطور الثقافة الصحية أصبحت معدومة، فالملاريا أساسها البعوض كناقل وحامل للمرض، والبعوض يتكاثر في البيئة غير النظيفة. كذلك كانت تنتشر بعض الأمراض الجلدية الناتجة عن إهمال النظافة، واليوم ليس لها وجود.

مما ساعد على التخلص من الأوساخ والنفايات، وجود هيئة حكومية عملها الأساسي نقل هذه النفايات بعيداً عن العمران. ولكن مع ذلك يقع العبء الأكبر على الفرد في العناية بالنظافة من ناحية عدم الاتكال على الآخرين الذي يقتصر دورهم على نقطة واحدة من عدة نقاط يجب أن يشملها دوره. فإهمال نظافة الملبس أو المأكل أو المشرب أو المسكن، هي أساس تعشيش العدوى التي تنتقل انتقال النار في الهشيم.

الصحة لا يمكن أن تقدر بثمن ولا تضحية، فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء. والصحة هي النشاط والحيوية والراحة؛ لذلك لن يكون كثيراً علينا إن حاولنا قدر الإمكان أن نكون نظيفين في كل مكان نرتاده بدون التأفف من الالتزامات المترتبة على هذا الأمر، أو التخلي عن النظافة من أول تجربة.

لذلك يجب أن لا يتوقف قطار العناية بالنظافة، ما دمنا نريد أن نعيش حياة هانئة بعيداً عن المنغصات والأكدار والعلل. ويجب أن نشد أزر بعضنا البعض وأن نكون يدا واحدة للوصول لأفضل النتائج في مجال الصحة العامة.

عندما ترى الدول المتقدمة قد قطعت شوطاً في التخلص من الأمراض، عن طريق فرض نظام صحي صارم، من ناحية الالتزام بالنظافة في كل مكان، في البيت والسوق والمدرسة والكلية والجامعة ومقر العمل والشارع. وترى بالمقابل الدول النامية ترزح تحت أمراض كثيرة وأوبئة وعلل، بسبب تخليها عن اتباع نظام نظافة مماثل. وتجد فرد الدول المتقدمة يعيش عمره بصحة وعافية منتجاً معطياً وطنه أفضلية في العلم والاختراع والابتكار والرفاهية، مقابل ذلك المسكين المستسلم لقدره من الأمراض التي تنخر جسده الذي يستمر بتلقي المرض تلو المرض، فيصبح شخصاً عليلاً غير قادر على أداء دوره في الحياة كما ينبغي، فيكون وبالاً على وطنه الذي يتأخر يوماً بعد يوم، ويزيد عدد المستشفيات يوماً بعد يوم، وطوابير المرضى تزداد بدل أن تخف حدتها. وهذه نتيجة محزنة أن تكون أوطاننا تئن تحت وطأة الأمراض الناتجة عن عدم وجود ثقافة صحية، ووعي وإدراك بأهمية النظافة في حياتنا.

«الوقاية خير من العلاج»، قاعدة صحية مشهورة ومعروفة، وتعني أن نقطع أسباب المرض باتباع الأساليب الصحية التي أساسها النظافة في كل مناحي الحياة. والوقاية تكون بالابتعاد عن مسببات المرض قبل وقوعه. ونحن نعلم أن وجود المرض وانتقاله كعدوى يكون بسبب إهمال النظافة، سواء على المستوى العام أو الشخصي. ولا يكون هذا الأمر في الواقع إلا إذا كانت النظافة أولوية تبذل من أجلها الجهود والنقود، وتعطى حقها من الاهتمام مهما نراه يأخذ أكثر من حقه. أما أن تظل هامشية أو أننا نراها لا تستحق الاهتمام، فسنظل ندور في دائرة مغلقة، قوامها الأمراض والعلل والضعف والوهن التي تؤدي إلى الضياع والتخلف والفقر، بسبب عدم وجود الإنتاجية التي تبني الأوطان وتعلو بها الأمم. وكما قال الشاعر:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم

لم يبن مجد على جهل وإقلال

عندما نعلم أن النظافة هي القاعدة التي تكون أساساً يقوم عليه باقي البنيان لا بد أن بذرك أن ضياع أو انهيار هذه القاعدة سيؤثر على باقي البنيان بل وسيكون سببا في انهياره انهيارا يحطم كل شيء وستكون هنا الخسارة القادمة والضياع والهرج والمرج. لذلك يجب الاهتمام ببناء هذه القاعدة على أساس قوى متين لينشأ باقي البنيان قوياً شامخاً لا يهتز بل تتوطد أركانه يوماً بعد يوم. وهذا بسبب العناية بالقاعدة والتي هي النظافة. فالمجتمع الذي يضع النظافة في مكانتها الحقيقية لا بد أن يجني ثماراً طيبة والعكس صحيح.

وعندما تقول أن أي مجتمع نظيف، هو مجتمع صحي قوي متقدم متحضر وراق، وتقول بالمقابل أن أي مجتمع غير نظيف، هو مجتمع متخلف مريض إنتاجه ومحصلة عطائه هزيلة وأن أبناءه يرزحون تحت مجموعة من الأمراض التي تنهش أجسادهم وتمنعهم من الرقي والبناء والعطاء والإنتاج، وبالتالي فهم في البناء الحضاري صفر. فإننا نقول ببساطة أن النظافة حياة هانئة وأن إهمال النظافة موت بطيء. يا إلهي، هنا حياة وهنا موت، وشتان بين الحياة والموت. ولتنظر حجم الخسارة بسبب عدم إدراك الحقيقة فقط، هنا ربح وفير وهنا خسارة فادحة، وهنا تقدم ورقي وأناقة وهنا تخلف وأمراض وآلام وأوجاع وأنين وفقر مدقع، هنا يستمتع بالآمال في سعة العيش وهنا آلام مبرحة يتمنى معها المسكين الموت. إنها العقول التي تختلف باختلاف وجهة نظرها تجاه قضايا مصيرية مثل قضية النظافة.

وعندما نتكلم عن النظافة على أنها رقي حضاري؛ لأن النفس التي تتعاطى مع موضوع النظافة بإيجابية، لم تولد معها هذه الإيجابية، بل اكتسبتها اكتساباً من خلال تغيير القناعات الخاطئة بداية، وبالبذل والتضحية والعطاء وحب التقدم والرفعة والسمو لاحقاً، مع إدراك القيمة الحضارية للنظافة. فالأناقة والجمال والذوق الرفيع وحب الجمال في أبهى صوره، كلها معطيات جاءت بعد إدراك الحقيقة القائمة على أن قوانين ونواميس الحياة تقرأ بطريقة صحيحة حتى نستطيع أن نسخرها لمصلحة البشرية وتكون في جوهرها سعادة وراحة وصحة، توفر علينا الكثير من العناء والمشقة والجهد الضائع في ردهات الآفات والأمراض، والازدهار في جميع جوانبه هو في الحقيقة نتائج تراكمية بسبب وجود نعمة الصحة والعافية. فالأجسام والعقول تتجه نحو العطاء، بعد أن كانت طاقة سلبية تصرف على دفع البلاء وتصريف الآلام والتخلص من تبعات الوهن.

والتخلص من الأمراض تعتبر محصلة جيدة جداً، إذا اعتبرنا هذه النتيجة بسبب المحافظة على النظافة. وفي الحقيقة مرحلة التخلص من الأمراض هي الخطة الأولى عند الشعوب المتقدمة، لأن الخطوة الثانية هي الأهم، فمرحلة الانطلاق نحو البناء والتعمير والاختراع وتطوير الصناعات. كما أن التقدم قائم على البناء والاختراع وبالتالي لن نصل إلى المرحلة الثانية اللازمة للنهوض إلا إذا تجاوزنا المرحلة الأولى، ولن نتجاوزها إلا إذا أدركنا أهميتها في البناء الحضاري والتقدم ودورها في جلب الرفاهية والرخاء الاقتصادي والتقدم العلمي والتكنولوجي.

إذاً النظافة هي أساس المجتمع الصحي الذي يعيش في جو التفاؤل الممزوج بالتطلع غلى البناء الحضاري الشامل والصحة التي هي نتيجة من نتائج النظافة أيضاً جداً ضرورية لتصل إلى بقيتنا في هذه الحياة، ونتفرغ لأداء أدوارنا على أكمل وجه، بدل العيش تحت رحمة الآلام والأمراض التي تمنعنا من العمل والعطاء والعيش بكل أريحية. وكما رأينا هنا أننا كلما أولينا النظافة الاهتمام اللازم، كلما كنا أصحاء أقوياء قادرين على تجاوز كل الخطوط الحمراء التي تقف في وجوهنا بكل عزم وثبات مع أمل يحدونا إلى بر الأمان ونحن ننعم بالصحة والعافية والعيش الرغيد.