أفكار وآراء

التدافع الجديد نحو إفريقيا

20 مارس 2019
20 مارس 2019

الإيكونومست ترجمة: قاسم مكي -

حدث أول تعاظم كبير في الاهتمام الأجنبي بإفريقيا (عرف باسم التدافع نحو إفريقيا أو التكالب عليها) عندما قسَم المستعمرون الأوروبيون القارة في القرن التاسع عشر واستولوا على أرض الأفارقة. أما الثاني فكان خلال الحرب الباردة حين تنافس الشرق والغرب في كسب ولاء الدول الإفريقية المستقلة حديثا. وقتها ساند الاتحاد السوفييتي الطغاة الماركسيين في حين دعمت أمريكا المستبدين الذين زعموا أنهم يؤمنون بالرأسمالية. أما الثالث الذي نشهده الآن فهو حميد بدرجة أكبر.

لقد انتبه الأجانب إلى أهمية إفريقيا. إنها تبدو أكثر أهمية ليس أقله بسبب تزايد حصتها من سكان العالم (بحلول عام 2025 تتوقع الأمم المتحدة أن يفوق الأفارقة الصينيين عددا). فالحكومات والشركات حول العالم تتدافع لتعزيز روابطها الدبلوماسية والاستراتيجية والتجارية معها. يوجد هذا التدافع فرصا ضخمة وإذا تعاملت معه إفريقيا بحكمة سيكون الفائزون الرئيسيون هم الأفارقة أنفسهم.

إن حجم الاهتمام الأجنبي بإفريقيا غير مسبوق. دعونا نبدأ بالدبلوماسية. لقد افتتحت أكثر من 320 سفارة في إفريقيا في الفترة من 2010 إلى 2016. وربما كان ذلك أعظم ازدهار في بناء السفارات في أي مكان على الإطلاق. تركيا لوحدها افتتحت 26 سفارة. وفي العام الماضي أعلنت الهند أنها ستفتتح 18 سفارة. كما تتعمق الروابط العسكرية أيضا. فأمريكا وفرنسا تساهمان بالقوة والتقنية في محاربة الأصولية في بلدان «الساحل». والصين الآن أكبر بائعة أسلحة لإفريقيا جنوب الصحراء ولديها روابط تقنية دفاعية مع 45 بلدا. كما وقعت روسيا 19 صفقة عسكرية مع دول إفريقية منذ عام 2014.

إن العلاقات التجارية تنقلب رأسا على عقب. ففي وقت قريب لا يتعدى عام 2006 كان أكبر الشركاء التجاريين لإفريقيا هم أمريكا والصين وفرنسا، بهذا الترتيب. وبحلول عام 2018 كانت الصين الشريك الأول تليها الهند ثم أمريكا (أما فرنسا ففي المرتبة السابعة). وخلال الفترة نفسها تضاعف حجم التجارة ثلاث مرات مع تركيا وإندونيسيا وأكثر من أربع مرات مع روسيا. أما التجارة مع أوروبا فزادت بنسبة متواضعة بلغت 41%. ولا تزال الشركات الأمريكية والبريطانية والفرنسية أكبر مصادر للاستثمار الأجنبي المباشر. لكن الشركات الصينية تلحق بها، بما فيها تلك المدعومة من الحكومة. ويتلهف المستثمرون من الهند وسنغافورة لدخول المعمعة.

الصورة النمطية المشكلة عن الأجانب في إفريقيا تظهرهم كاستعماريين جدد مستغلين ويهتمون فقط بالموارد الطبيعية للقارة وليس بشعوبها وأنهم على استعداد لرشوة أصحاب الشأن المحليين في صفقات مشبوهة لا تفيد الأفارقة العاديين. هذا التنميط صحيح أحيانا. فكثير جدا من الاستثمارات النفطية والمعدنية غير نظيفة. ودائما في مقدور الفاسدين في إفريقيا (لا تزال أعدادهم وفيرة) إيجاد معاونين أجانب لتبييض الأموال المنهوبة. وفي الغالب يحيط الغموض بالعقود المبرمة مع شركات من بلدان لا تهتم كثيرا بالشفافية مثل الصين وروسيا. لقد قتل ثلاثة صحفيين روس في العام الماضي أثناء إجرائهم تحقيقا عن شركة مرتزقة مرتبطة بالكرملين قيل إنها تحمي رئيس أحد البلدان الإفريقية وعمليات تعدين الماس. لذلك من المفهوم أن العديدين شعروا بنفحة من الاستعمار القديم.

لكن التعامل مع العالم الخارجي كان في معظمه إيجابيا بالنسبة للأفارقة. فالأجانب شيدوا الموانئ وباعوا عقود التأمين وجلبوا تقنية الهواتف النقالة. والمصانع الصينية تدور في إثيوبيا ورواندا. كما تطير الخطوط الجوية التركية إلى أكثر من 50 مدينة إفريقية.

ويشكل تعاظم الانفتاح نحو التجارة والاستثمار أحد أسباب ارتفاع نصيب الفرد من الناتج الإجمالي في إفريقيا جنوب الصحراء بحوالي الثلثين مقارنة بعام 2000. (ساعد في ذلك أيضا تحسن سياسات الاقتصاد الكلي وتقلص عدد الحروب) فالأفارقة يمكنهم الاستفادة حين يشتري الأجانب كل شيء من الأقمشة إلى الإجازات (السياحية) إلى الخدمات الرقمية.

مع ذلك، في مقدور الأفارقة عمل المزيد لتعظيم نصيبهم من المنافع.

فأولا: يمكن للناخبين والناشطين الإصرار على الشفافية. ما يسعد البال أن جنوب إفريقيا تحقق في صفقات يزعم أنها غير سوية تم عقدها في ظل حكم الرئيس السابق جاكوب زوما. لكن ما يزعج أن تصرفات أسوأ في الكونغو لم تحظ بمراجعة وأن شروط القروض الصينية لبعض الحكومات الإفريقية الغارقة في الديون تتصف بالسرية. فلضمان أن تكون الصفقة الحكومية مفيدة للمواطنين العاديين كما هي كذلك لكبار القوم يجب أن يعلم الناخبون بمحتواها. وللصحفيين من أمثال الكينيين الذين كشفوا فضائح حول مشروع صيني للسكة الحديد دور كبير في ذلك.

ثانيا: يحتاج القادة الأفارقة إلى تفكير استراتيجي أعمق. ربما أن إفريقيا تقارب الصين في اكتظاظها بالسكان لكنها تضم 54 بلدا وليس قطرا واحدا (مثل الصين). ويمكن أن تبرم الحكومات الإفريقية اتفاقيات أفضل إذا أظهرت المزيد من الوحدة. لا أحد يتوقع أن تكون قارة متنافرة الأجزاء بها مناطق قتال فوضوي وأيضا ديمقراطيات مزدهرة في مثل تكامل أوروبا. لكن يمكنها يقينا تجنب انفراد الصين بالتفاوض مع كل بلد على حدة خلف الأبواب المغلقة. فمثلا الاختلال في النفوذ بين الصين وأوغندا هائل. ويمكن تقليله إلى حد ما بإيجاد منطقة تجارة حرة أو توحيد التكتلات الإقليمية الإفريقية. فمنافع مشروعات البنية الأساسية تنساب عبر الحدود.

ثالثا: لا يلزم القادة الأفارقة الانحياز (إلى طرف ما) كما فعلوا أثناء الحرب الباردة. فهم يمكنهم التعامل تجاريا مع الديمقراطيات الغربية وأيضا مع الصين وروسيا وأي بلد آخر لديه شيء يمكن أن يقدمه لهم. ولأن للأفارقة خيارا أوسع مما في السابق سيكون بمستطاعهم المساومة بقدر أكبر. ويجب ألا يعتبر الأغراب ذلك منافسة صفرية (يكسب فيها أحد الطرفين ما يخسره الطرف الآخر - المترجم) على نحو ما تفعل إدارة ترامب على ما يبدو حين تلتفت إلى إفريقيا. فإذا شيدت الصين جسرا في غانا يمكن أن تعبر فوقه سيارة أمريكية. وإذا استثمرت شركة بريطانية في شبكة بيانات متنقلة في كينيا يمكن أن يستخدمها مستثمر كيني لتأسيس شركة ناشئة عابرة للحدود.

رابعا: وأخيرا، يجب أن يتعامل الأفارقة مع ما يقوله لهم بعض أصدقائهم الجدد ببعض الارتياب. فالصين ترى أن الديمقراطية فكرة غربية وأن التنمية تتطلب تشددا. دون شك تصادف هذه الرسالة هوى في نفوس الرجال الأقوياء في إفريقيا. لكنها عبث. لقد وجدت دراسة أجراها الباحثان تاكاكي ماساكي من البنك الدولي ونيكولاس فان دي وال من جامعة كورنيل أن البلدان الإفريقية تنمو بوتيرة أسرع إذا كانت أكثر ديمقراطية. وما يسعد أن الأفارقة مع تحسن التعليم وتسارع انتقالهم إلى المدن يصبحون أكثر انتقادًا لحكامهم وأقل خشية من فعل ذلك. في عام 1997 حصلت 70% من الأحزاب الإفريقية الحاكمة على أكثر من 60% من أصوات الناخبين. أحد أسباب ذلك دفعها الزعماء الريفيون للضغط على القرويين للتصويت لمرشحيها. لكن بحلول عام 2015 تقلصت هذه النسبة إلى 50% فقط. ومع اتجاه السياسة إلى أن تكون أكثر تنافسية سيزداد نفوذ الناخبين. وسيكون بمقدورهم الإصرار على شكل من العولمة مفيد للأفارقة والأجانب على السواء.