AZZA
AZZA
أعمدة

التراث المعماري.. حكاية وتاريخ يسردها الزمن

20 مارس 2019
20 مارس 2019

د.عزة القصابي -

كانت أزقة الحارات العمانية متدفقة بمظاهر الحياة الاجتماعية، أطفال ونساء، وكبار السن الذين يمضون بألق شبابي، وظلت أنفاس المكان تتوهج بابتسامة وطيبة أهالي الحارات القديمة لسنوات طويلة.

اليوم، أمست الحارات القديمة خاوية على عروشها، تبكي الأيام الخوالي، فهناك من تأثر بتغيرات المناخ، فتصدعت جدران البيوت واندثرت، بينما بعضها ظل صامدا ضد صروف الطبيعة ومواكبة للحياة بكل أشجانها وآفاقها الرحبة.

أصبح منظرا مألوفا أن نشاهد فلول السائحين، يتخللون أزقة الحارات المبنية من الطين والصاروج وجذوع النخيل، للاستمتاع بجمالها الأخاذ ورونقها الأثري، الذي يمزج بين الأصالة والمعاصرة، عبر لوحة عريقة تتحدث عن أطلال الماضي.

يزخر تاريخُ عمان المعماري تصاميم متنوعة من المباني الأثرية كالقلاع والحصون والمنازل، تعدد أشكالها ومسمياتها حسب الغرض من بنائها، فهناك القلاع التي بنيت لتكون مقرا للسلطة ومكانا لإقامة الحاكم وأسرته. ويغلب الطابع الاجتماعي على المنازل والمدارس والسبلة العامة (مكان اجتماع الأهالي)، فيما تنفرد المساجد والجوامع والمقابر بالطابع الديني. ويغلب الطابع العسكري على الأبنية الدفاعية، كالأبراج والأسوار والحصون المحيطة بالحارات القديمة لحمايتها والدفاع عن المجتمع.

تنتشر الحارات العمانية على امتداد خارطة السلطنة الجغرافية، إذ أن معظم الولايات العمانية توجد بها حارة قديمة شيدت من الطين المحلي ومواد الخام المأخوذة من البيئة العمانية. وتتشابه هذه الحارات في تخطيطها، فهي تتكون من المنازل السكنية والحمامات والمسجد وساحة يتجمع فيها الأهالي في المناسبات إضافة إلى (السبلة) كمكان للقاء شيخ القبيلة بالأهالي، كما تتخلل الحارات قنوات الرأي (الأفلاج)، إضافة إلى الآبار.

ومن الحارات العمانية القديمة حارة اليمن بولاية إزكي، وحارة السيباني بنيابة بركة الموز، وحارة حجرة فنجاء بولاية بدبد، وحارة السليف بولاية عبري، وحارة العقر بولاية بهلا ...وغيرها من الحارات القديمة.

يختلف تصميم البيوت في الحارات القديمة حسب موقعها، فتصميم البيوت الجبلية، مختلف عن البيوت في السهول والأرياف، التي في الغالب تبنى من سعف جذوع النخيل وأطرافها. ويشكل تغيرات المناخ بين حار وبارد خلال العام الواحد، عاملا مهما للهجرة الموسمية للسكان قديما، فقد كان الأهالي ينزحون من الريف إلى السواحل خلال فترة الصيف، ويقومون بعملية عكسية في الشتاء، إذا يغادرون السواحل نحو البلدة أو الأرياف. وتتميز منازل البلدة بقلة النوافذ وفتحات التهوية المبنية من الطوب والجص، لحماية قاطنيها من تغيرات الطقس والعواصف والأمطار الموسمية، كما تظهر فيها مواقد لإشعال النار.

ومع مرور الزمن، بقيت أبنية وجدران الحارات شاهدة على عظمة الإنسان العماني في التشييد والبناء والصمود ضد المعتد وتقلبات الطبيعة. إلا أنه من المؤسف حقا أن نشاهد عددا كبيرا من الحارات تتوارى عن الأعيان خلف المباني الشاهقة، والعلب الإسمنتية التي شكلت نمطا جديدا للحياة العصرية.

رغم الجهود المبذولة لإنقاذ الحارات وغيرها من المباني الأثرية، إلا أننا بحاجة فعلية إلى العمل سريعا، والشروع إلى بدء المبادرات المجتمعية لانتشال تراثنا الجميل والحفاظ عليه، والإسراع في إسعاف ما تبقى منه وانتشاله من ضائقة الزمن.

علينا أن نسعى للاستفادة من تجارب الآخرين في كيفية التعامل مع التراث المادي، هناك طرق كثيرة ومتعددة انتهجتها الدول المتقدمة، لاستعادة الحياة في المورث المعماري، والعمل على أحيائه وإشراك المجتمع المدني في تبني مشاريع عصرية في المواقع الأثرية، بعد تحويلها إلى مزارات ونزل ومطاعم ومقاه ومتاحف ومحلات تجارية لبيع التحف والهدايا التذكارية. على أن تكون الأولوية لأصحاب المؤسسات الصغيرة، إضافة إلى تحويل القلاع والحصون كمكان لإقامة الفعاليات الثقافية والفنية.

هناك بدايات لأفكار مقاربة وإن كانت متأخرة زمنيا، ولكن نأمل أن نراها تطال جميع المواقع الأثرية القديمة بما فيها الحارات، لتعيد إليها رونقها الذي عاشه أجدادنا قديما، وتحدثنا عن قصص شهد عليها الزمان والمكان يوما ما.