المنوعات

في مديح البلدات الصغيرة.. ذاكرة الكائن والمكان

19 مارس 2019
19 مارس 2019

القاهرة «العمانية»: يشتمل الكتاب الأخير للشاعر المصري منتصر عبد الموجود، على مجموعة من النصوص المفتوحة التي كُتبت في مناخات متعددة ضمن تأملات للواقع المحيط بكل ما يضجّ به من حراك وسكون كفعْلَين متضادَّين لطبع الحياة. يبدو الكاتب في نصوصه رهينَ اهتمامَين يتصلان بوسيلة التعبير التي تقع بين الشعر الذي صدر له فيه «حروب وهزائم» و«ثمة أشياء لن يجربها» و«الحنين.. سلة المفقودات»، والسرد الذي تمثله روايته الأولى «معلم الآلة الكاتبة ولونه الواحد».

وفي الكتاب الصادر عن «الآن ناشرون وموزعون» بعمّان، يترك عبد الموجود للكلمات أن تتناسل وتتوالد بعفوية وهي ترصد الطرقات والمحالّ والشوارع وتغدو جزءا من الكائنات التي تتحرك في المكان. إذ جاء على الغلاف الأخير: «الطريق التي عُبّدت بوطء أقدامهم جيئة وذهاباً، تصرّ على اختيار نفسها كل شتاء، علّها تنجح في الاحتفاظ بآثارهم على سطحها الموحِل الذي يماطل معوِّلاً على ذاكرة هشة، تبرِّئ الجميع من تهمة الرحيل».

ويلمس القارئ في كتابات عبد الموجود، رهاناً على الأثر الذي ينقش ليس في ذاكرة الكائن فقط، بل وأيضاً في ذاكرة المكان التي تقول ما لم يقله الإنسان لسببٍ ما. وتمثل نصوصه رصداً وامضاً للّحظة أو اللحظات التي يسرقها الزمان دون أن نلتفت إليها في ضجيج الحركة والأصوات والجلبة التي يركض فيها الناس إلى ما لا يتيح لهم أن يتوقفوا لتأمل الأشياء.

يقول الكاتب في أحد نصوصه: «بخطوات قليلة نبلغُ التخوم... حيث بيوتٌ تزدهي بالفراغ الأكثر كثافة حيث المعصيةُ المشروطة بالثنائية تتوارى في الزراعات حيث الغريبُ الوحيد يغزل قميصاً من العزلة والصمت ويغزل بقاء من الصدقات وحيث جلوسنا على ناصيةٍ بمحاذاة الزمن تمكّننا من قراءة ماكس جاكوب بصوت عالٍ..

هكذا ظل يردّد طوال الطريق غافلاً عن حقيقة التخوم..

خامة تشتغل عليها أصابعُ الزمن».

في هذا النص ثمة رهان على المتخيَّل، استناداً إلى ما يقوله «ماكس جاكوب»: «أنا أعرف نفسي، سوف أراهم في كل شيء، سوف أراهم في كل شيء هادئ، ما عدا ملامحي». وهي الرؤية التي تبدّد الواقع لمصلحة المتوقَّع بالنأي بعيداً عن الضجيج الذي يسرقنا منا، للوقوف أمام الذات وتفحّصها ومعرفتها بأثر ما تركت في المكان.

في نصوص عبد الموجود ذات النبرة الخافتة، ثمة صوت مبحوح أو مجروح، ونازف بالصمت والعزلة التي تكابد استعادة المكان واستعادة ملمح الذات المنسيّة على تخوم الأشياء. وكما ظلت هذه النصوص برزخاً للكتابة بين الشعر والسرد، فقد ظلت البلدات الصغيرة في برزخ الذاكرة متخيَّلاً للكتابة التي تعمر هندستَها الكلماتُ، حيث الهروب من الضجيج، والذاكرة المجروحة إلى كينونة الإنسان ببراءته وطمأنينته والحنين إلى طفولة الأشياء. ومن مناخات النصوص: «يبددُ النهارَ بالنومِ، شاكراً للأرضِ عَدَمَ البوحِ بِوَقْعِ خُطُوَاتِه واتساعَها لعينيه المفتوحتين على نَفْسٍ، تَضَعُ كلَّ أَثْقَالِ جَسَدِه في سَلَّةِ التخييلِ، حيث مساراتٌ تُطِيلُ مُنْحنياتُها نَزْفَ وعيهِ بِوَاقِعٍ، لم يبقَ منه سوى غيمةٍ خريفيةٍ، ظَّل يَتَرصَّدُهَا مُتَوجِّساً من شتاء قادمٍ، ستفسدُ أمطارُه دفقةَ حنو سري، تغلفُ به الأرضُ نظرتَه الحزينةَ؛ فيسترد الواقعُ كامِلَ حضورِه بِمطالعةِ بركة مطرٍ، تذكّرُه أنَّ المرآةَ من طينةِ النهارِ الذي يتحاشاه، كلما نظرَ في صَفْحَتِها، لا يرَى شيئاً».