المنوعات

الفضائية التصورية في قصـيدة «سأسحب نفسي» لشمـيسة النعمانية

19 مارس 2019
19 مارس 2019

ظلت علاقة ذهن الإنسان وبناء فكره التصوري بالجسد علاقة هامشية في الدراسات القديمة، وإلى وقت متأخر نسبيا، ولم تتغير إلا في العقود الأخيرة عندما بدأت الدراسات العرفانية تطرح رؤى مختلفة تجعل من الجسد مركزا في بناء تصورات الإنسان، وخاصة في أطروحات الأمريكيينِ جورج لايكوف ومارك جونسون سواء من خلال كتابيهما المشتركين الاستعارات التي نحيا بها وكتاب الفلسفة في الجسد أو من خلال تآليفهم المنفردة.

وتقوم هذه النظرية على فلسفة أن تجاربنا لها طبيعة فيزيائية تنبي من منطلق حسي جسدي حيث أن للإنسان جسدا له أعلى وأسفل وشمال ويمين ومركز وهامش وارتفاع وانخفاض وكتلة قابلة للدخول والخروج أو غير قابلة...إلخ، هذه الطبيعية الفيزيائية أصبحت منطلقا لبناء التصورات، فأصبحت مثلا السعادة فوق والشقاء تحت! فنقول محمد في القمة، وسقط فلان سقوطا مدويا، وهناك أصحاب اليمين وأصحاب الشمال! وهذه كلها تصورات اتجاهية أتت من فضائية الجسد.

وهذا البناء التصوري يشتغل في نسق منسجم لا تعارض فيه، ليشكل المنظومة الفكرية للإنسان التي تحكم سلوكه وفعله، فالسلوك والفعل تجلٍ للفكر، ولذلك تعاطِي الإنسان مع الوجود من حوله والقبض عليه تتأتى من استراتيجيات تصورية ساهم فيها الجسد المتحيز مكانيا بصورة كبيرة.

والشاعرة شميسة النعماني تتضح عندها تجلياتٌ اتجاهيةٌ وفضائيةٌ في الكثير من المواضع سواء في القصيدة التي سنعالجها أم في غيرها من القصائد في مجموعتها «سأزرع في الريح قمحي»، وهذه التجليات تعكس مساهمة الجسد في تشكيل تصوراتنا، وفهم الكثير مما حولنا، واخترنا هنا قصيدة «سأسحب نفسي» وسنأخذ منها بعض النماذج ونعالجها وفق المقاربة المعرفية.

تقول النعمانية:

«سأسحب نفسي كلما اشتدت خيوط حول جذعي..

سأسحب نفسي في تعثرها على الرمل الحريري الذي لما تلوى في

أصابعها استوى طينا،

ولا كف لتغسلها بنبع..»

تنطلق هنا الشاعرة من واقعية حضور الجسد وفاعليته سواء بواقع الفعل المباشر، أم بواقع وجوده الفعلي، حيث التجلي الأول والأساسي للإنسان هو عبر الجسد، بكتلته وطوله وعرضه ويمينه وشماله... ثم بعد ذلك انعكاس هذا الواقع على بناء التصورات لدى الإنسان، فلا انفكاك من واقع التجربة، حيث يدرك الإنسان فيما يدرك أنه أولا حالٌّ في الزمان والمكان ومؤثرٌ ومتأثرٌ بهما، ثم أن هذا الجسد بهيئته تلك يفرض عليه شروطه.

وفعل «السحب» الذي جاء في مطلع النص يقتضي اتجاها فضائيا، أدركه الإنسان من واقع تجربته الفيزيائية، ويقتضي كتلة قابلة للتحريك، وهذا السحب إما للأمام أو الخلف، أو لليمين أو الشمال، وكلها أصبحت تأخذ قيما فكرية وثقافية حسب المنظومة التي تبنى فيها.

فنجد الأمام يعني المستقبل والتقدم والنجاح والفوز وغيرها من القيم الإيجابية؛ فنقول فلان في الأمام دائما، ونعني أنه سباق ومتميز وناجح؛ ونقول فلان في الخلف ومتخلف، ونقصد أنه فاشل وراسب وغيرها من المفاهيم السالبة، وكذلك بالنسبة لليمين والشمال، وهما اتجاهان أدركهما الإنسان وبناهما من فرضية جسده.

وهنا السحب الذي نجده في هذا النص هو سحب للخلف وفق المنظومة الثقافية، حيث الضعف والوهن والانكسار ينسجم مع الرجوع والتخلف، ولما كانت هنا الشاعرة بصدد الفعل بعد الكبو والانكسار والوجع كان الانسحاب والخلف منسجما مع البناء الفكري الذي تنطلق منه، فجاء متعاضدا خطابيا مع البث اللغوي في النص.

ثم نجد أن الشاعرة تنطلق من بناء تصوري آخر وهو السعادة فوق والحزن تحت، والذي يتجلى في تعابير لغوية من مثل فلان معنوياته مرتفعة وفلان في القمة...إلخ، وفي المقابل فلان في القاع ورمى نفسه في حفرة نتيجة أفعاله، ومعنوياته في الأرض، وغيرها من تعابير السالب؛ ولذلك كان هنا التعثر على الرمل والسقوط إلى الأسفل ناتجا عن تجربتنا الجسدية التي يكون فيها الرأس في الأعلى مرتفعا، وهو أهم عضو في جسد الإنسان، فكان الأعلى هو الموجب، أما عندما يضعف الإنسان أو يوهنه مرض فيكون نازلا للأرض غير قادر على الارتفاع؛ وكذلك هناك تجربة أخرى حيث الموت يؤول فيه الجسد في حفرة، ممددا على الأرض.

وتقول الشاعرة في مقطع آخر:

«سأسحب نفسي

وحدها ستظل لي:

إن كنت في سطح البحيرة نجمة علوية أبدية،

أو كنت في حقل بعيد أصغر الأزهار،

عابرة بعطري نحو مقصلتي..»

هنا الشاعرة تضخ قيم التصور الإيجابي للعلو في قولها «نجمة علوية» رابطة بين النجم والارتفاع بما يشكله كل منهما من فرادة، ففي النجم معاني الإضاءة والسطوع والظهور، وفي العلو المكانة والقيمة المتميزة التي لا يمكن الوصول إليها، ولكن هنا بانزياح رشيق تربط الشاعرة كل ذلك بما يقتضيه سياق النص بسطح البحيرة الذي يشكل انخفاضا، ليتواءم ذلك مع حالة الانسحاب والتراجع التي بني عليها النص.