الملف السياسي

توقعات محدودة في ظل أزمات النظام الإقليمي العربي

18 مارس 2019
18 مارس 2019

د. صلاح أبو نار -

في كل الأحوال لا يمكن تصور أي صفقة مع سوريا، يساوم فيها الأسد على علاقاته مع إيران. واذا اختفت تلك الإمكانية ماذا سوف يكون موضوع هذه الصفقة؟ والخلاصة نحن أمام قمة ستعيد غالبا ترديد ما أعلنته قمة الظهران، ولعل أفضل شيء تقدمه هي أن تؤكد مجددا وبشكل أقوى أسس الرؤية العربية للمشكلة الفلسطينية.

في 26 مارس الجاري ستبدأ في تونس الأعمال التحضيرية المباشرة للقمة العربية في دورتها الثلاثين، وفي 31 مارس ستنعقد القمة ليوم واحد لتصدر بعدها بيانها الختامي: «إعلان تونس». ما الذي يمكن أن يحدث خلال تلك الأيام الخمسة؟ ليس من شأن السياقات المصاحبة لانعقاد القمة أن تمنحنا سوى قدر محدود من التفاؤل.

يعيش الواقع العربي أسوأ فتراته منذ بداية عصر الاستقلال الوطني في خمسينات القرن الماضي، كنظام إقليمي ناظم للتفاعلات الإقليمية، وكدولة قومية ناظمة للتفاعلات الداخلية. والأمر المؤكد ان القمة العربية يمكن ان تتحول الى منصة لفعل إرادي جماعي، قادر على توليد عمليات سياسية جماعية وممتدة تسعى لنفي هذا الواقع وإعادة تأسيسه على قواعد أخرى. وهذا ما قامت به بالفعل قمم أخرى أهمها قمة الخرطوم 1968. كانت قمة الخرطوم هي التي وضعت أسس السياسة العربية بعد هزيمة 1967، وأطلقت آليات الدعم العربي المادي والعسكري لدول المواجهة، وأنهت حالة الحرب الباردة العربية التي سيطرت على عقدي الخمسينات والستينات، وعبر ذلك كله خلقت مجالا سياسيا عربيا سمح بانطلاق مسيرة بناء مؤسسي كثيفة وموسعة للنظام الإقليمي العربي.

ولكن الآن لا تبدو القمم العربية مهيأة لفعل تجاوز من هذا النمط، ويبدو هذا واضحا في السياقات السياسية المصاحبة لها. يمكننا رصد هذه السياقات عبر ثلاثة مسارات مختلفة.

سنجد المسار الأول في سلسلة القمم التي انعقدت من ديسمبر 2018، وتوزعت بين قمم عربية خالصة أو كانت الدول العربية طرفا أساسيا فيها. وتمنحنا تلك القمم مادة لتحليل واقع العمل العربي الجماعي، بما يساعدنا على تكوين نظرة سليمة لحدود هذا العمل وفي إطاره قمة تونس العربية.

في التاسع من ديسمبر 2018 اجتمعت القمة 39 لقادة دول مجلس التعاون الخليجي بالرياض، وفي 20 يناير 2019 اجتمعت «القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية» الرابعة في بيروت، وفي 13 فبراير شهدت وارسو اجتماع «المؤتمر الوزاري لتعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط»، وفي 24 فبراير شهدت شرم الشيخ انعقاد «القمة العربية الأوروبية الأولى».

واذا نظرنا للقمم الأربع من حيث التكوين، سنجد الأولى والثانية قمتين عربيتين خالصتين، والثالثة والرابعة قمتين عربيتين – أوروبيتين مع مشاركة أساسية أمريكية في الثالثة. واذا نظرنا إليها من منظور المستوى التمثيلي، سنجدها موزعة بين تمثيل رؤساء الدول في الأولى والرابعة، وتمثيل وزراء الخارجية في الثانية والثالثة منها.

ما الذي تخبرنا به تلك القمم؟ تخبرنا – أولا – ان الإجماع العربي القديم على أسس حل القضية الفلسطينية لم يتآكل على مستوى الالتزام الرسمي، فلا يزال كما هو يتردد في البيانات والإعلانات الرسمية، وهكذا سنجده حاضرا في القمة الخليجية وقمة بيروت والقمة الأوروبية – العربية. ولكن لو نظرنا للسياسات العملية المصاحبة لتلك الاستمرارية، سنجدها قد حلت بها أمراض جديدة. فالأزمات الإقليمية المشتعلة دفعت هذا الإجماع بعيدا إلى الخلفية السياسية، وتراجع النفوذ الاقتصادي الدولي لدى بعض دول المنطقة قلص قدراتها القديمة على التعبئة السياسية، والتفكك الذي حل بالنظام الإقليمي رافقه نمو في بعض الأدوار الإقليمية غير العربية، خلق حالة فزع لدى البعض دفعت معها بالقضية الفلسطينية الى خلفية الاهتمام.

باختصار نحن أمام إجماع سياسي أخلاقي، يزداد خلوا من القدرة على المساندة، وتدريجيا تظهر علامات غياب إرادة المساندة.

ويخبرنا – ثانيا – أن الكثير من تلك القمم تفضل وفقا لحسابات وتوازنات سياسية خاصة، سياسة تجميد المشاكل بدلا من التحول إلى ساحة للنقاش من حولها وتحمل مسؤولية مواجهتها. ظهر هذا بوضوح في القمة الخليجية، التي لم تتقدم بأي مبادرات لتهدئة الأزمة القطرية. ثم ظهر في قمة بيروت الاقتصادية التي لم تتقدم بأي مبادرات لمعالجة المأزق السوري، واقتصر اقترابها من الأزمة السورية على السياسات الداعمة للدول المستقبلة للاجئين السوريين.

ونحن لو راجعنا المجلد الضخم الذي احتوى مقررات القمة سنجد فيه استراتيجيات تنموية كثيرة، من الطاقة المستدامة إلى الصناعات المتوسطة والصغيرة إلى تمكين المرأة إلى التكنولوجيا الرقمية. لكننا لن نجد ما كان الجميع يريده: استراتيجية عربية لإعادة إعمار سوريا، كمدخل لمعالجة الأزمة السورية أو كرافعة لصياغة جديدة لدور العربي في سوريا. وحدث هذا بينما كانت مبادرات إعادة علاقات الدول العربية مع سوريا سائرة بخطوات قوية وعلنية. ثم ظهر مرة ثالثة في قمة شرم الشيخ عندما اكتفى الجميع بإعادة ترديد الموقف الصحيح من القضية الفلسطينية، وأحجم الجميع عن التفكير في استغلال القمة بثقلها الدولي لإطلاق مبادرة دولية لإطار تفاوضي جديد، بعد انهيار إطار اوسلو ومع كل مؤشرات إطلاق ما يسمى بصفقة القرن التي تهدر أسس أي تسوية عادلة.

وسنجد المسار الثاني في الوضع الراهن للنظام الإقليمي العربي. ما الذي يخبرنا به هذا الوضع؟

يخبرنا – أولا – ان النظام الإقليمي العربي اصبح فريسة لاختراقات عميقة من قبل نمطين من الفاعلين الخارجيين: دول تعبر عن قوى دولية وإقليمية، وقوى سياسية قاعدية لا تعبر عن دول بل جماعات متشددة مقاتلة عابرة للحدود، والطرفان اصبحا قادرين على تأسيس شبكات توطين وتحالفات عميقة في بلدان المنطقة. وهو الامر الذي جعله عاجزا عن ضبط تفاعلاته الداخلية، ويعاني من كثرة الإرادات الفاعلة في بنيانه، ومعرضا لتفككات عميقة في هياكل الدولة القومية وقواها الضابطة. ويخبرنا – ثانيا – ان الدولة القومية أي الوحدة الأساسية المشكلة للنظام الإقليمي العربي تعاني أزمات تشل قدرتها على الإدارة العقلانية للنظام الإقليمي. أزمة تفكك مركزي كامل مصحوب بحرب أهلية في قطاع أول منها، وأزمة ركود مؤسسي طال عمليات تجديد النخب السياسية وهياكل الدولة كان له تداعياته الوخيمة على أداء مؤسسات الدولة في قطاع ثان منها، والأخطر أزمة نكوص سياسي شعبي حلت بالكثير من الدول أزالت من المجال السياسي قوة سياسية قاعدية كان لها سلطة أخلاقية في المجال القومي العربي العام، حتى مع افتقارها لهياكل الفعل السياسي المقنن.

وهناك – ثالثا – هذا السعي المنظم لإحلال نسق جديد ناظم لعلاقات وتفاعلات النظام الإقليمي. يسعى هذا النسق الى الدفع بالصراع العربي – الإسرائيلي الى خلفية النظام العربي، ولكن دونما أي حل جوهري لتناقضاته الأساسية، وفي المقابل يدفع بصراع عربي - إيراني مفتعل الى الواجهة، ومن حوله يسعى لإعادة ترتيب التحالفات والتفاعلات الإقليمية بحيث يصطف العرب وإسرائيل في جبهة واحدة. ومن البديهي أن المصدر الأساسي لهذا المسعى هو أمريكا وإسرائيل، ويتجلى واضحا في ثنايا ما يدعي بصفقة القرن، ثم قرار الخروج الأمريكي من اتفاقية إيران النووية. لكن نفس المسعى يجد بعض التجاوب العربي لدى بعض الجهات. وسوف نجد المسار الثالث في المقدمات المباشرة للقمة القادمة.

لم يبق سوى أيام قليلة على انطلاق القمة، ومع ذلك لم تظهر حتى الآن أي مؤشرات لما يمكن أن تسفر عنه. ولو فحصنا موقع الجامعة العربية، وموقع القمة الذي أسسته الحكومة التونسية، لن نجد داخلهما حتى الآن أي أوراق أو أي بيانات تتعلق بالقمة بأي شكل كانت. ولو فحصنا المواقع الأساسية المتخصصة في سياسات الشرق الأوسط، مثل ميدل ايست مونيتور وكارنيجي وبروكينجز الدوحة، لن نجد تحليلات تتعلق بالقمة. والموقع الذي منحها بعض الاهتمام هو المونيتور، ولكن من زاوية ضيقة وإخبارية حصرا وتتعلق بسؤال: هل ستحضر سوريا القمة العربية؟

وباختصار لا تبدو مقدمات القمة موحية بأي مواقف فارقة على أي مستوى كان. وفي نفس السياق لا تبدو مؤهلة لاتخاذ قرار بعودة سوريا لصفوف الجامعة. وفقا لتصريحات الأمين العام للجامعة لم تعرض على أي اجتماع من اجتماعات القمة التحضيرية أية أوراق تشير إلى عودة سوريا، وبالتالي لم يطرح الموضوع رسميا للنقاش. وأكدت تصريحات لمتحدثين رسميين تونسيين على صلة بترتيبات الجامعة نفس الفكرة. وفي الأسبوع السابق على انعقاد قمة بيروت تسربت أخبار حول انضمام سوريا للاجتماع، ولكن سرعان ما جرى تكذيبها رسميا، وعندما خرجت وثائق القمة تناولت المسألة السورية من زاوية دعم الدول العربية المستضيفة للاجئين، وحرصت على الإشارة اليهم دون ذكر صفتهم كسوريين. وهو أمر مثير للدهشة لأن عملية عودة سوريا الى الساحة العربية تتصاعد بالفعل على مستوى العلاقات الثنائية، ولأن البحرين والإمارات أعادتا فتح سفارتيهما في دمشق، ولأن الرئيس البشير المدعوم عربيا حل بسوريا ضيفا على الأسد. فهل نحن أمام عملية مؤجلة في إطار الترتيب لصفقة سياسية؟ وماهو موضوع هذه الصفقة؟ أم أننا نواجه حالة ارتباك سياسي؟

في كل الأحوال لا يمكن تصور أي صفقة مع سوريا، يساوم فيها الأسد على علاقاته مع إيران. واذا اختفت تلك الإمكانية ماذا سوف يكون موضوع هذه الصفقة؟ والخلاصة نحن أمام قمة ستعيد غالبا ترديد ما أعلنته قمة الظهران، ولعل أفضل شيء تقدمه هي أن تؤكد مجددا وبشكل أقوى أسس الرؤية العربية للمشكلة الفلسطينية.