أفكار وآراء

الصين والهند ودولة الحضارة

13 مارس 2019
13 مارس 2019

جيديون راكمان الفاينانشال تايمز -

ترجمة: قاسم مكي -

تتخذ الحجة «البانونية» القائلة أن الهجرة الجماعية تقوض القيم الأمريكية التقليدية موقعا مركزيا في أيديولوجيا دونالد ترامب. ففي حديث للرئيس الأمريكي في وارسو عام 2017 أعلن أن « السؤال الأساسي في عصرنا هو هل لدى الغرب الإرادة في البقاء» وذلك قبل أن يطمئن مستمعيه بأن «حضارتنا ستنتصر».

أشاع القرن التاسع عشر فكرة الدولة الوطنية (دولة الأمة). وربما سيكون القرن الحادي والعشرين قرن الدولة الحضارية «دولة الحضارة».

دولة الحضارة هي بلد يزعم أنه يمثل ليس فقط أرضا تاريخية أو لغة أو جماعة عرقية بعينها ولكن أيضا حضارة متميزة. إنها فكرة تنتشر في دول متنوعة كالصين والهند وروسيا وتركيا بل وحتى الولايات المتحدة.

تنطوي فكرة دولة الحضارة على دلالات «غير ليبرالية» واضحة. فهي تعني ضمنا أن محاولات تعريف حقوق إنسان عامة (تنطبق على كل البشر) أو وضع معايير ديموقراطية مشتركة خاطئة بالنظر إلى أن كل حضارة بحاجة إلى مؤسسات سياسية تعكس ثقافتها الفريدة الخاصة بها.

فكرة دولة الحضارة، بجانب ذلك، إقصائية أيضا. فالأقليات وجماعات المهاجرين قد لا تجد لها أبدا مكانا في هذه الدولة لأنها ليست جزءا من حضارتها الأساسية. أحد الأسباب التي ترجح انتشار فكرة دولة الحضارة على نطاق أوسع صعود الصين. ففي أحاديثه إلى الأجانب، يحب الرئيس شي جينبينج التأكيد على فرادة تاريخ وحضارة الصين.

لقد تم الترويج لهذه الفكرة من جانب المثقفين الصينيين الموالين للحكومة من أمثال جانج وايوي من جامعة فودان. ففي كتاب بالغ التأثير بعنوان «موجة الصين: صعود دولة حضارية» يرى جانج أن الصين الحديثة نجحت لأنها انصرفت عن الأفكار السياسية الغربية وتبنت بدلا عنها نموذجا متجذرا في ثقافتها الكونفوشية الخاصة بها وفي تقاليد الجدارة التي ترتكز على التمحيص والاختبار.

كان جانج يستنبت فكرة توسع في شرحها أولا مارتن جاك وهو كاتب غربي في أحد أفضل الكتب مبيعا بعنوان «حينما تحكم الصين العالم». يرى جاك «أن تاريخ الصين كدولة وطنية لا يتجاوز عمرها 120 إلى 150 عاما فقط. أما تاريخها الحضاري فيعود إلى آلاف السنين.» وهو يعتقد أن الشخصية المتميزة للحضارة الصينية تقود إلى معايير اجتماعية وسياسية مختلفة جدا عن تلك السائدة في الغرب بما في ذلك «فكرة وجوب ارتكاز الدولة على الروابط العائلية وسيادة نظرة مختلفة جدا للعلاقة بين الفرد والمجتمع مع إيلاء أهمية كبرى لهذا الأخير».

أما الهند فمثلها مثل الصين يزيد عدد سكانها عن بليون نسمة. لقد انجذب منظرو حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم لفكرة ان الهند تزيد عن كونها مجرد بلد. بل هي حضارة متميزة. وبالنسبة لهذا الحزب فإن الملمح الفريد الأكثر تمييزا للحضارة الهندية هو الهندوسية. وهذه فكرة تنطوي ضمنا على اعتبار باقي العقائد مواطنين من الدرجة الثانية.

يرى جايانت سينها وهو وزير في حكومة ناريندرا مودي أن الآباء المؤسسين للهند الحديثة مثل جواهرلال نهرو أخطأوا في تبني أفكار غربية مثل الاشتراكية العلمية اعتقادا منهم بأنها قابلة للتطبيق في كل البلدان. كان ينبغي عليهم بدلا عن ذلك بناء نظام حكم الهند في حقبة ما بعدالاستعمار على أساس ثقافتها الفريدة الخاصة بها.

ربما يبدو جايانت سينها بصفته مستشارا سابقا لشركة مكنزي وحاصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة هارفارد ناقلا كلاسيكيا لقيم «العولمة».

لكن عندما قابلته في دلهي العام الماضي كان يدعو إلى الخصوصية الثقافية مبررا ذلك بقوله «في نظرنا يعلو التراث على الدولة. يشعر الناس أن تراثهم تحت الحصار. نحن لدينا نظرة للعالم ترتكز على الإيمان في مقابل النظرة العقلانية العلمية».

تكسب النظرة الحضارية للدولة أنصارا كذلك في روسيا. فبعض المنظرين الأيديولوجيين المحيطين بفلاديمير بوتين يتبنون الآن فكرة أن روسيا تمثل حضارة أوراسية متميزة لم يكن ينبغي لها أبدا أن تسعى للتكامل مع الغرب.

وفي مقال نشر مؤخرا يرى فلاديسلاف سوركوف وهو مستشار مقرب من الرئيس الروسي أن جهود بلده «المتكررة وغير المثمرة من أجل أن تكون جزءا من الحضارة الغربية وصلت أخيرا إلى نهايتها».

وبدلا عن ذلك يجب أن تعتنق روسيا هويتها «كحضارة تأثرت بالشرق والغرب كليهما» ولديها «عقلية هجين وأراض تجمع بين قارتين وتاريخ ثنائي القطبين. إنها بلد كاريزمي وموهوب وجميل ووحيد، تماما كما ينبغي للمولد (الهجين) أن يكون كذلك».

في نظام عالمي صاغه وجبله الغرب ليس مفاجئا أن يرغب بعض المثقفين في بلدان مثل الصين والهند أو روسيا التأكيد على تميز حضاراتهم. لكن ما هو مفاجئ أكثر أن المفكرين من الجناح اليميني في الولايات المتحدة يتراجعون أيضا عن فكرة القيم العامة (التي تنطبق على كل البلدان) ويفضلون التأكيد على الطبيعة الفريدة والمهددة، حسب زعمهم، للحضارة الغربية.

كان ستيف بانون الذي عمل لفترة وجيزة كبيرا للاستراتيجيين في إدارة ترامب يردد القول بأن الهجرة الجماعية وتدهور القيم المسيحية التقليدية يقوضان الحضارة الغربية.

وفي محاولة لوقف هذا التدهور يساهم بانون في تأسيس «أكاديمية للغرب اليهودي- المسيحي» في إيطاليا لتدريب جيل جديد من القادة.

تتخذ الحجة «البانونية» القائلة أن الهجرة الجماعية تقوض القيم الأمريكية التقليدية موقعا مركزيا في أيديولوجيا دونالد ترامب.

ففي حديث للرئيس الأمريكي في وارسو عام 2017 أعلن أن « السؤال الأساسي في عصرنا هو هل لدى الغرب الإرادة في البقاء» وذلك قبل أن يطمئن مستمعيه بأن «حضارتنا ستنتصر».

لكن الغريب قد يكون تبني ترامب للنظرة «الحضارية» للعالم في الواقع عَرَضا (من أعراض) تدهور الغرب. لقد أعلن أسلافه من الرؤساء الأمريكيين في ثقة أن القيم الأمريكية عامة (تنطبق على كل البشر) وقدرها الحتمي الانتصار حول العالم.

لقد جعل النفوذ العالمي للأفكار الغربية «الدولة الوطنية» المبدأ العالمي للتنظيم السياسي. وربما سيوجد صعود قوى آسيوية مثل الصين والهند نماذج جديدة تشكل خطوة إلى الأمام كما في نموذج «الدولة الحضارية».