أفكار وآراء

المشهد الجزائري والحوار الوطني

12 مارس 2019
12 مارس 2019

عوض بن سعيد باقوير - صحفي ومحلل سياسي -

المشهد الجزائري كان نموذجا ايجابيا من خلال التعبير السلمي لجموع الشعب الجزائري نحو إيجاد منظومة وطنية تتماشى والمتغيرات التي يشهدها العالم، كان هناك تخوف وقلق ان تتكرر مشاهد وكوارث التجارب السورية واليمنية والليبية والتي أدت الى كوارث إنسانية لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، حيث معاناة تلك الشعوب العربية، ومن هنا فإن الشعب الجزائري يستحق التحية من خلال سلوكه الحضاري في التعبير عن طموحاته المستقبلية.

على صعيد آخر يسجل للقيادة الجزائرية برئاسة عبد العزيز بوتفليقة استجابتها لظروف المرحلة والتي تستدعي قرارات وطنية تصب لصالح الوطن الجزائري الشقيق، ومن هنا جاءت القرارات المهمة للرئيس الجزائري والتي كان من أهمها عدم الترشح لفترة خامسة وتأجيل الانتخابات الرئاسية والتي كانت مقررة خلال شهر أبريل القادم وعمل ندوة وطنية موسعة حول شكل الدولة الجزائرية في المستقبل.

قرارات حاسمة

شكلت التظاهرات السلمية للشعب لجموع المواطنين في الجزائر ظاهرة حضارية تفوقت حتى على دول تدعي الديمقراطية كفرنسا فالمشهد في باريس وعدد من المدن الفرنسية كان مختلفا عن المشهد في الجزائر العاصمة والمدن الاخرى، حيث الانضباط والتعامل الايجابي بين قوى الامن والمواطنين في اطار حرص على المكتسبات التي تحققت للشعب الجزائري طوال سنوات ما بعد الاستقلال.

فالمشهد في عدد من الدول الغربية كان صادما حيث المواجهات والعنف بين جموع المواطنين خاصة أصحاب السترات الصفراء والقوى الأمنية والشرطة والتي نتج عنها تحطيم عدد من المؤسسات والمحلات التجارية ومقتل عدد من المتظاهرين وإشعال النيران في مشهد سلبي نقله الإعلام العالمي، ومن هنا تسجل للشعب الجزائري والشرطة وقوى الأمن الجزائرية ذلك الحس الوطني والذي جنب الجزائر الشقيق الانزلاق الى مرحلة معقدة، كما حصل في المظاهرات في سوريا وليبيا واليمن وهي الدول التي لا تزال تعاني من حروب أهلية وتمزق للمجتمعات وهروب الملايين من تلك الشعوب خارج أوطانها، كما ان القيادة الجزائرية استوعبت المشهد الشعبي وأدركت بان المنطق السياسي يفرض إجراءات وطنية تجنب الجزائر النتائج الكارثية لتلك الدول التي تمت الإشارة لها وحتى العنف الذي شهدته فرنسا والآن فنزويلا والتي تواجه مشكلات بين الحكومة والمعارضة المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية.

قرارات الرئيس الجزائري جاءت في وقت حاسم وبعد رجوعه من جنيف مباشرة حيث كان في رحله علاجية ولا شك ان مظاهر الفرح عمت الجزائر لتلك القرارات الموضوعية، كما ان تغيير الحكومة يعد مسألة مهمة في هذا الظرف السياسي الدقيق، فالأهداف الكلية الوطنية تسبق الأشخاص والحفاظ على الوحدة الوطنية.

ان الندوة الوطنية المرتقبة سوف تناقش كل قضايا الوطن الجزائري وإيجاد مشروع وطني يحدد مسار الجمهورية الثانية ويعطي للجزائر المزيد من الخيارات والمشاركة خاصة من قبل الشباب ذوي القدرات العلمية، كما ان المنطقة والعالم يمران بمتغيرات في غاية الصعوبة خاصة منطقة المغرب العربي حيث مشاكل الحرب الأهلية في ليبيا وتداعياتها على الأمن القومي في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم حيث الثروات الكبيرة من النفط والغاز والمعادن وهناك أطماع كبيرة في تلك المنطقة والتاريخ لا يزال شاهدا على تلك المطامع.

الوحدة الوطنية

في ظل اي متغيرات حاسمة او تغيير سياسي تظل الوحدة الوطنية هي السياج الذي يحمي الأوطان من أي هزات محتملة والطامعون وأصحاب الفتن ليسوا فقط من الخارج ولكن هناك مجموعات في الداخل لها دوافعها غير الوطنية، أما لحساب الخارج أو من خلال الدعوة الى التمزق، وهو الأمر الذي تعانيه مجتمعات في المنطقة والعالم، وعلى ضوء النموذج الجزائري فإن الحفاظ على الوحدة الوطنية وعدم الانسياق وراء الأصوات السلبية لا يساعد على إخراج ذلك المشهد الى بر الأمان.

الجزائر في وضع صعب وتحتاج الى أصوات الحكمة ومن خلال القرارات الأخيرة للرئيس الجزائري فإن تأجيل الانتخابات وعمل الندوة الوطنية وما تسفر عنه من آليات وتصورات سوف يكون الطريق الصحيح لمرحلة متجددة وهذه الفترة الزمنية لن تزيد عن نهاية هذا العام

وتأجيل الانتخابات الرئاسية في الجزائر يأتي منسجما مع التطورات التي تشهدها الجزائر، فالبلد بحاجة الى حوار مجتمعي يشارك فيه الجميع ومن كل الأحزاب والقوى السياسية وأهل العلم والمعرفة وكل أطياف المجتمع الجزائري لصياغة المشروع الوطني والذي سوف يشكل مستقبل الأجيال في الجزائر حيث إن هذه الدولة العربية المهمة لديها من الإمكانات والموارد البشرية مما يجعلها نموذجا متطورا ليس في إفريقيا ولكن على مستوى الدول النامية في العالم.

فهناك نماذج تحدثنا عنها في مقالات سابقة هي أقل إمكانات وموارد وخرجت من حروب مدمرة وهي الآن تتصدر المشهد الاقتصادي والاستثماري بل وبدأ بعضها في إطلاق أقمار صناعية الى الفضاء في مشهد يكاد لا يصدق واعني هنا رواندا علاوة على النمر الاقتصادي الصاعد وهي فيتنام والقادمون من الخلف سوف يندفعون الى مصاف الدول المتقدمة.

التناغم الوطني مع القرارات الأخيرة لابد ان يحدث، فحرق المراحل مسألة في غاية الخطورة، ولعل النموذج السوري يعد صارخا في هذا الإطار ومن هنا فإن المسار الحالي لابد ان يتواصل وان تكون الآليات متسقة مع الوضع في الجزائر وان تتوقف المظاهرات السلمية حتى تعطي الفرص لتطبيق ما تم إقراره وهو الاستعداد للندوة الوطنية الموسعة ومناقشة كل القضايا الوطنية بكل شفافيه للخروج برؤى تخدم الشعب الجزائري وعدم الانسياق وراء الشعارات التي لا تخدم الجزائر.

الوحدة الوطنية هي السياج الأهم في ظل أي أزمات وطنية كما ان النظام السياسي في أي بلد لابد ان يقرأ وبعمق المتغيرات المختلفة وان لا يراهن على أصوات تقليدية بعيدة عن تلك المتغيرات، فالعالم كما اشرنا يشهد متغيرات وهناك مؤامرات تحاك ضد الأوطان ولأسباب مختلفة ومن هنا فإن تحقيق الأهداف الوطنية ينطلق من اللحمة الوطنية وإعطاء الفرصة لتطبيق ما تم الاتفاق عليه وهي فترة زمنية لا تتعدى بضعة شهور.

مستقبل الجزائر

شهد العالم العربي خلال عام 2011 او ما سمي بالربيع العربي مفارقات ودلالات ساهم فيها البعض الى تدمير تلك الاوطان حيث كان الاندفاع تحت شعارات غير موضوعية، في حين تعاملت بعض الدول بحكمة وقراءة موضوعية للأحداث وجنبت شعوبها وأوطانها الكارثة والتي لا نزال نشهد بعض أحداثها الكارثية، وفي الحالة الجزائرية فإن المسار السياسي يعطي أملا كبيرا للشعب الجزائري من خلال المنظومة الوطنية الجديدة ولا شك ان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وهو احد السياسيين المخضرمين ادرك اهمية المرحلة وان الجزائر ومصالح شعبها تتعدى الاشخاص وهذا منطق سياسي يتسم بالحكمة والخبرة السياسية والقراءة المتانية للمشهد الجزائري، وهذا نموذج يسجل للرئيس الجزائري خلال تلك الاحداث.

الجزائر بلد عربي وافريقي مهم ولديه امكانات كبيره ويحتاج الى رؤية جديدة تتماشى مع المتغيرات في العالم وظهور اجيال جديدة حان الوقت لاعطائها الفرصة للتفوق والإبداع والانطلاق في المجالات المختلفة، فنموذج رواندا الناجح ليس ببعيد عن دول شمال إفريقيا بشكل عام كما ان الموقع الاستراتيجي للجزائر على البحر المتوسط يعد موقعا مثاليا وقربها من القارة الأوروبية يعطيها ميزة في مجال التجارة والاستثمار كما هو الحال مع بقية دول شمال إفريقيا والتي تحتاج في هذه المرحلة الى استعادة قوتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال عودة الاتحاد المغاربي الى وضع يجعله قوة اقتصادية على غرار رابطة دول جنوب شرق آسيا المعروفة باسم الآسيان والتي حققت خلال نصف قرن تكاملا اقتصاديا مهما.

المشهد الجزائري مع تطور الأحداث يحتاج الى تروٍّ ومسؤولية من كل القوى السياسية والمجتمع المدني ورجال الحكمة وهناك شخصيات مهمه التقى بها الرئيس الجزائري عند عودته من جنيف ومنهم الديبلوماسي المخضرم الأخضر الإبراهيمي وعدد من الشخصيات الأخرى مما يعطي مؤشرا ايجابيا بأن الجميع حريص ان تمر هذه المرحلة الانتقالية بشكل إيجابي ينسجم والتطلعات الوطنية للشعب الجزائري الشقيق.

ان المرحلة تعد حساسة والأجيال الجديدة تنظر الى المتغيرات القادمة بشكل يتماشى مع تطلعاتها نحو المزيد من التطور والنقلة النوعية للجزائر في ظل تناغم مجتمعي وحرص على الوحدة الوطنية والانطلاق في العمل الوطني وعدم استغلال المشهد من قبل البعض داخليا وخارجيا فالأوطان ومستقبلها تبقى في النهاية اهم من الطموحات الفردية الضيقة مع كل التوفيق لمسيرة الجزائر وطنا وشعبا.