أفكار وآراء

«العقل العربي» .. محطة لجلد الذات بلا مبرر

10 مارس 2019
10 مارس 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

shialoom @ gmail.com -

فالثقافة العربية تتأصل انطلاقا من القيم التراثية، والقيم الدينية، والقيم الاجتماعية، حيث تمثل هذه كلها مناخات مهمة في تعزيز الثقافة، بكل ما تحمله هذه المعززات من مفاهيم مستهلكة، ونمطية، وممارسات مغلوطة في الدين، ومبالغة متجاوز في حد تطبيقاتها في الحياة الاجتماعية.

تداول الـ «واتس أبيون» الأسبوع الماضي صورة عبارة عن حمار موضوع على ظهره كرسي، ورجل يجلس على الكرسي، وكان التعليق المصاحب لهذه الصورة هو: «العقل العربي مصاب بمرض الكرسي ولو على ظهر الحمار» وكان تعليقي على ذلك بالقول: « استغرب حقيقة من هذا التوصيف المهين للعقل العربي» وكأن العربي أردأ خلق الله، والله تعالى يقول: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا ...) وهذا يكفي سموا لهذا الإنسان الذي يوصف من بني جنسه بأدنى المخلوقات البشرية، وينعت بأسوأ الصفات، بينما كل البشرية تعيش نفس المفارقات السلوكية، فقط يبقى: «فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه». والمسألة لا يجب أن تنسب الى العقل العربي بصورة مطلقة، وإنما الى عدم إيمان الثقافة العربية بجزئيات معينة، هي معززة للحياة العامة، لأنها ثقافة نشأت على الوصاية الأبوية؛ التي تكرس الفردية على حساب المجموع، منذ اللحظات الأولى بين أحضان الأسرة، وهذه إشكالية موضوعية عند التطبيق، ومن ذلك حتى لو وضعت نظم معينة وقوانين تجير وفق الأهواء التي لا تخرج كثيرا عن الحرص على خدمة الفرد، ولو على حساب المجموع وعلى ذلك ينساق المنهج الاجتماعي وفق هذه الرؤية لتكريس البقاء، وهذا غالبا لا يحدث إلا في الدول العربية، ومن تعمد نشر هذه الصورة؛ على سبيل المثال؛ هو ينطلق من هذا الفهم غير المشروط بنقد البنيوية الفكرية للعقلية العربية، وإنما يعكس صورة نمطية رسختها ثقافة القبيلة العربية، كحاضنة أكبر لمختلف القيم، بينما واقع الفرد، وهو متحرر من ذلك، غيره تماما، حيث انه المبدع، والمفكر، وصاحب الرأي السديد، والشجاع، والكريم، والمواطن الصالح، مع الإيمان بنسبية كل هذه الصفات مقسمة على مجموع أفراد الأنسنة العربية. فالثقافة العربية تتأصل انطلاقا من القيم التراثية، والقيم الدينية، والقيم الاجتماعية، حيث تمثل هذه كلها مناخات مهمة في تعزيز الثقافة، بكل ما تحمله هذه المعززات من مفاهيم مستهلكة، ونمطية، وممارسات مغلوطة في الدين، ومبالغة متجاوز في حد تطبيقاتها في الحياة الاجتماعية، وهذه في مجموعها تعمل على خلق أسوار شديدة التماسك، للحد من التحرر المفضي الى وجود واقع جديد، من شأنه أن يزحزح الراكد المفاهيمي في مختلف الممارسات الحياتية اليومية، وتأتي «البيئة الأسرية» لتلعب دورا محوريا في مسألة ترسيخ القيم لدى الناشئة، ولذلك فهي؛ بحكم هذا الدور؛ تتحمل كامل المسؤولية في حالة إخفاق الأفراد عن القيام بكامل الدور المنوط عليهم، وكما يردد دائما: «وينشأ ناشئ الفتيان فينا: على ما كان عوده أبوه» ولكن المفارقة تحدث، عندما تلتزم القيم الأسرية بتأدية دورها الكامل، وتمر فترة الطفولة بتلقائيتها المعروفة، وعندما يبدأ هذا الفرد بالدخول في متون المجتمع ودهاليزه، يصطدم بمجموعة من التناقضات، بين ما «عوده أبوه» وبين واقع الناس في المجتمع، والمقصود بالمجتمع هنا، كل المكونات الفاعلة، بدءا من المؤسسة الأسرية، ومحاضن التربية، والمؤسسة الإدارية، والمؤسسة التشريعية، فكل هذه المؤسسات، فإن لم تتوافق في تأدية الدور بصورة تكاملية، فإنها تحدث شرخا في الذاكرة الجمعية، فتضطرب هذه الذاكرة، ويحدث انشقاقا متصدعا ليس يسيرا لأن يلتئم بين عشية أو ضحاها، خاصة إذا وجد فرد من أفرادها أن هذه الصورة التي يعيشها في محيطه، غير مستنسخة في مجتمعات أخرى، يتقاسم معها كثيرا من الظروف ومعززات الحياة اليومية. يأتي دور النظم والقوانين لتنظيم العلاقة بين الفرد؛ كونه فردا مسؤولا مسؤولية كاملة عن تصرفاته؛ وبين المجتمع الذي يعيش فيه؛ والذي يضم مجموعة من الأفراد المختلفين في الأفكار، والرؤى، والطموحات، والنزاعات الذاتية، بحيث لا يكون هناك تنازع أو تناقض في التوظيف بين ما تحفل به السلوكيات والممارسات وبين تدعو إليه مجموعة النظم والقوانين، ولا يسمح في هذه الحالة الى الاستماع الى المبررات لذلك لحدوث التناقض، او إتاحة الفرص للاستثناءات، لأنه لو حدث ذلك فسيكون نتاجا مباشرا للمسألة الثقافية المتجذرة، وقد تعرضت هذه الصورة لانتقادات منذ الأزمان الأولى لعمر الوعي، فقد قال الشاعر: «إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة: فإن فساد الرأي أن تتردد» والتردد هنا يعكس صورة التضاد بين ما تدعو اليه القوانين والنظم، وبين ما يحفل به الواقع من ممارسات.

ومن ذلك تعيش «البنيوية الفكرية» نوعا من الاضطراب والتشويش، ذلك لأنها كلما أرادت أن تستقر عن قناعة معينة، صدمها الواقع بممارسات مختلفة، فترتبك، وتحتاج الى فترة زمنية حتى تتعافى من هذا الارتباك، لتستقر على قناعة جديدة، فإذا بها تصطدم بصور أخرى، وهكذا تعيش حالة من الارتباك المستمرة، فلا تتأصل على قاعدة ثابتة، وقد نظر الى «البنيوية العقائدية» بنوع من الاستقرار، بخلاف البنيويات الأخرى، ولكن جدليتها تبقى في حالة مستمرة، نتيجة لوجود مذاهب متعددة تتصارع فيما بينها، ليس لصالح العقيدة ذاتها، وإنما لتقوية حجة تفردها، بأنها الأصلح والأنقى، وهذه بدورها تقلق الواقع، وتشل حركته الى حد بعيد، فهذا التململ الذي تعيشه، كثيرا، ما يصل الى الصدام المباشر، والذي تكون نتائجه ثقيلة على اللحمة الاجتماعية وعلى «البنيوية الفكرية» أيضا، في الوقت نفسه يعيش الجميع في دوامة البحث عن الحقيقة، وهذا ما يدفع بضعاف النفوس الى الخروج كليا من الملة، والعيش بدون عقيدة يتكئ عليها؛ على الأقل؛ في الأوقات التي تسد أمامه الوسائل البشرية، فينضوي الى حالة من اللا استقرار، وهذه الحالة أيضا لا يجب ان يعاد ارتباكها الى العقلية العربية، وقد مرت أوروبا بذات الحالة في مرحلة زمنية ما.

ونتيجة لذلك ترسخت صورة نمطية على أن البيئات العربية أصبحت طاردة للمبدعين، والأذكياء، بسبب الأنظمة البيروقراطية المعمول بها في التعامل مع مثل هذه الفئات المتميزة من أبنائها، والمسألة – في تقديري – تعود الى الأنظمة البيروقراطية؛ حيث عدم وجود الاستعدادات الكاملة لاحتواء مثل هذه العقليات المتجاوزة للحالة الراكدة في مجتمعاتها، فالنظم المعمول بها لا تتيح نفسا أكبر يمكن أن يستوعب هذه الفئات من أبناء المجتمع، والتي تتجاوز في نظرتها وطموحاتها إمكانيات الواقع، فتلجأ الى بيئات اكثر استيعابا، لأنها بيئات؛ بحكم تجربتها؛ قادرة على استيعاب هذه الفئات المتميزة، وتوظيف طاقاتها الكامنة، توظيفا مهنيا، فالبيئات الحاضنة؛ غالبا؛ ما تكون مرت بتجارب عديدة استطاعت من خلالها الخروج من «شرنقة» التأسيس الأولى، وبالتالي حتى تصبح البيئات الأم قادرة على استيعاب أبنائها من هذا النوع من العقليات، عليها أن تقطع مساحة زمنية طويلة، تستطيع من خلالها إعادة توازنات كثيرة، ومن ضمنها استيعاب وتوظيف هذه العقليات الحادة الذكاء، فمئات الآلاف من المتخصصين في الطب والهندسة، والعلوم الإنسانية الأخرى من العرب، هم اليوم يتقلدون المناصب العليا، ويديرون أدق وأخطر المؤسسات في البلدان الأمريكية والأوروبية، ويشاركون بفاعلية في صنع القرار السياسي والاقتصادي في هذه الدول، فلنتصور حجم الخسارة على البلد الأم، والسبب الأنظمة المعمول بها، وهذا «الهروب الجماعي» إن تجوز التسمية ينطبق على كثير من الدول العربية. أليست هذه عقول عربية؟ فسوء توظيف الموارد هي حالة عربية بامتياز، وهي أحد الأسباب المهمة في البيئات الطاردة للقوى البشرية المتميزة، وهذه إشكالية كبيرة، وهذا يعود أيضا الى عدم قدرة النظم الإدارية لاستغلال هذه الطاقة البشرية بكامل استحقاقاتها الفنية والإدارية، فاليوم؛ على سبيل المثال؛ تتكدس هذه الطاقات في المكاتب، مشكلة بذلك «بطالة مقنعة» وطاقة مهدرة، وهي في كامل طاقاتها الإنتاجية، وفي كامل طاقاتها المعرفية، فمع مرور الأيام تذبل وتستسلم لهذا الواقع الـ «مهين» وتتأصل فيها مع مرور الزمن الهزيمة الذاتية، فتنكفئ وتتراجع وتفقد كل مقوماتها المعنوية، وإما تنزع نفسها من هذا المستنقع، وتبحث عن بيئة حيوية قادرة على استيعابها، وتحقق ذاتها، وتعلي من أسهمها الفنية والمعرفية، لتظل دائما معبرة عن ذاتها بما تملكه من قدرات، وإمكانيات، وإما أن تظل على حالتها الخاملة، وفي كل هذه الحالات تتحمل القيادات؛ في أي موقع تكون؛ كامل المسؤولية الوطنية، تجاه من يديرون طاقاتهم من الأفراد، وتتحدد هذه المسؤولية في القدرة على توظيف هذه الطاقات النافرة، فالقيادات هي الموجهة لتأسيس القناعات، وتجلية الرؤية، وذلك من خلال تحديث النظم، وتشجيع الابتكار، والأخذ بالمتميزين، وإنزالهم المنزلة المباركة، واحتوائهم الاحتواء الصادق، والذاهب أبدا الى ترقية الوطن، وإعزاز دورهم، ومساهمتها على المسرح العالمي.