أفكار وآراء

عندما يقع الإعلام في أفخاخ وسائل التواصل !

09 مارس 2019
09 مارس 2019

د. عبد العاطى محمد -

منذ أيام قليلة وقعت حادثة مأساوية بمحطة مصر الشهيرة للسكك الحديدية كشفت إهمالا جسيما راح ضحيته عشرات القتلى والمصابين. والحدث في ذاته ليس موضع الحديث عن شرور وسائل التواصل الاجتماعي برغم ما لها من فوائد لا يمكن إنكارها وبعد أن أصبحت فعلا إحدى وسائل الدولة الوطنية ذاتها للتعبير عن بعض مواقفها من الأحداث.

لطالما حذرنا من الكوارث التي تصنعها وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الزمان المنفلت. وغالبا ما يكون الإنسان البسيط هو المجنى عليه إما لقلة الخبرة أو لشغفه بالإثارة أو للتسلية ليس إلا، ولكن أن يقع الإعلاميون في هذه الكوارث، وهم الذين من المفترض بحكم تخصصهم ودرايتهم الواسعة بقواعد العمل الإعلامي الصحيح أن يكونوا أمناء على نشر الحقيقة والمعلومة الصحيحة، فهذا ما لا يمكن قبوله مطلقا، ويحتاج إلى وقفة حازمة.

ما نتحدث عنه ليس سرا، ولا هو من باب التحريض ضد وسيلة إعلامية هنا أو هناك، فالعاقل والغيور على أمته العربية في هذا الزمان الذي يختلط فيه الحق بالباطل والخطأ بالصواب بما يجعل المشهد ضبابيا ومحزنا بامتياز، لا يصرخ ولا يتصيد الأخطاء لهوى في نفسه ولا يرغب مطلقا أن يكون طرفا في صناعة هذا المشهد المؤسف. وإنما غايته أن يبرهن بالدلائل القاطعة على مواضع الخلل ويعمل جاهدا على عودة الوعي والحفاظ على مكاسب الأمة من المحيط إلى الخليج وتحصينها على الأقل من آفات الفوضى والخراب.

الموضوع ليس سرا لأن سرعة انتشار المعلومات والأخبار بلغت حدا لا يتخيله أحد بسبب الإمكانيات الهائلة التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق هذا الانتشار ولا يستطيع أحد أن يوقفها. وليس تحريضا لأنه مثال صارخ على ما يحدثه الكثير من هذه الوسائل يوميا من غزو للعقول سواء كان بحسن نية أو لغرض نشر الفوضى وتمزيق وحدة الشعوب أو لاختلاق معارك وهمية، قد جاء من أهله أو ممن صنعوه أساسا وليس من خصومهم حتى نقول كان عملا كيديا!. والقصة باتت معروفة للكافة وقدمت دروسا يتعين على كل من يزاول هذه المهنة أن يتدبرها فلعلها تكون بداية الإفاقة من غيبوبة التعامل بخفة مع وسائل التواصل الاجتماعي بكل أشكالها.

منذ أيام قليلة وقعت حادثة مأساوية بمحطة مصر الشهيرة للسكك الحديدية كشفت إهمالا جسيما راح ضحيته عشرات القتلى والمصابين. والحدث في ذاته ليس موضع الحديث عن شرور وسائل التواصل الاجتماعي برغم ما لها من فوائد لا يمكن إنكارها وبعد أن أصبحت فعلا إحدى وسائل الدولة الوطنية ذاتها للتعبير عن بعض مواقفها من الأحداث، بل وللتعبير عن منجزاتها. ولكن ما نحن بصدد التوقف عنده باهتمام شديد لاستيعاب العبر والدروس هو الفخ الذي وقعت فيه وسائل الإعلام وعلى نطاق واسع ومؤثر عندما جرت وراء «تويتة» كتبها شخص ما وثبت سريعا أنه أراد بها أن ينصب فخا للمواقع والصحف والصحفيين ومقدمي البرامج الفضائية، وصدقته فعلا بل سارعت للتسابق على أنها صاحبة المعلومة الخطأ التي تضمنتها هذه «التويتة»، ثم انكشفت الخدعة ولكن بعد فوات الأوان!

في الحادث الأليم سارع وزير النقل المصري وقتها هشام عرفات بتقديم استقالته تعبيرا عن تحمل المسؤولية السياسية. وسريعا قفز السؤال المعتاد في مثل هذه الأحداث، من هو الوزير القادم؟، وفي ظل الحالة الإعلامية المحمومة والممتدة منذ سنوات تبرع أحد مقدمي البرامج الشهيرة بالتلميح لاسم معين لم يتأكد رسميا وقتها وظل في إطار التخمين. ولم تمض 48 ساعة حتى استيقظ المصريون على خبر يتضمن تحديد اسم وزير النقل الجديد. لم يأت الخبر من وسائل الإعلام المعروفة وإنما من وسائل التواصل «عندما كتب ابن هذا الوزير(الوهمي) تويتة قال فيها: «تعيين الدكتور مهندس محمد وجيه عبد العزيز وزيرا للنقل والمواصلات، وحلف اليمين بعد غد، هو صاحب إنشاء جميع محطات وأنفاق السكك الحديدية المطورة بفرنسا، وصاحب الطفرة بالسكك الحديدية التي حدثت في السويد على مدار 18 سنة الماضية، حاصل على الأوسمة العليا من فرنسا في السكك الحديدية.. ربنا يوفقه». وبعد أن كتب التويتة قام بحذفها عمدا، فإذا ما كتب ينتشر مثل النار في الهشيم. قام 183 شخصا بعمل كوبي بست (أي قص ولصق التويتة كما هي وكأنها من بنات أفكاره) وقاموا بنشر التويتة الفخ، ليس هذا فقط بل قامت 8 مواقع إخبارية من بينها موقع دار أخبار اليوم التي تعد من مؤسسات الدولة الإعلامية بنشرها على أنها معلومة موثوق فيها تماما، وأذاعها برنامجان إخباريان بارزان، وكتبها 8 صحفيين على صفحاتهم، وكلهم قالوا إنهم حصلوا على المعلومة من مصادر خاصة ومن داخل وزارة النقل ذاتها، وأرادوا بذلك أن ينسبوا لأنفسهم الخبر على أنه سبق لهم. ثم كانت الصدمة عندما عاد صاحب التويتة ليؤكد أنها كانت فخا وقع فيه كل هؤلاء لسبب بسيط هو أن والده محمد وحيد عبد العزيز توفي منذ 11 عاما!!.

بعيدا عن التبرير الذي قدمه صاحب التويتة الفخ بأنه ضاق ذرعا بما تروجه في أحيان كثيرة بعض وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار مفبركة أو شائعات، قرر أن ينصب لها فخا يكشف زيفها بكتابته هذه التويتة خصوصا أنه قام بحذفها سريعا منتظرا رد الفعل الذي جاءه على قدر ما أراد فعلا، وهو كشف أن كثيرا مما يرد على السوشيال ميديا ليس صادقا!.. بعيدا عن هذا، فإن انسياق الإعلام المرئي والمقروء وراء خبر جاء من وسيلة ما من وسائل التواصل الاجتماعي أصبح من أعراف العمل الإعلامي المعاصر دون بذل أدنى جهد للتأكد المستقل من صحة ما تمتلئ به هذه الوسائل يوميا صباح مساء من معلومات قد تكون صحيحة في بعض الأحيان وقد تكون خاطئة أو غير دقيقة أو مجتزأة في أحيان أخرى. والخطورة في هذه الواقعة أنها ارتكبت بحق قضية ضغطت نفسيا وسياسيا على ملايين المصريين، وكان من المفترض أن تتم مراعاة عدم التلاعب بمشاعر ومواقف الناس في كل ما يتصل بهذه الواقعة إلى أن تتضح كل جوانب الحقيقة فيها، وهو ما لم يحدث للأسف الشديد.

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة في هذه الواقعة هو: ما العبر والدروس من واقعة كهذه سواء فيما يتعلق بأداء وسائل الإعلام المعروفة (التقليدية) أو الجديدة التي يطلق عليها الميديا أو السوشيال ميديا؟

الإجابة تتضمن الكثير مما يتعين التوقف عنده باهتمام شديد حفاظا على أية تجربة وطنية كانت في منطقتنا العربية، وهى من جهة أخرى كاشفة للآفات التي امتدت إلى شرايين بعض وسائل الإعلام العربية في الوقت المعاصر، ويتعين الخلاص منها على وجه السرعة. فمن الصحيح أن الإعلامي في الزمن المعاصر يحصل على معلوماته (أو الأخبار) من مصادره الخاصة أو وكالات الأنباء أو المواقع الإلكترونية التي تكاد تحتل مكان الصحف الورقية أو من المصادر الرسمية، ولكن اللهفة على السبق الإعلامي واستسهال الأداء المهني يكاد يجعل المصادر الخاصة الوسيلة الأكثر رواجا، وغالبا ما يبرر الإعلامي (أو الصحفي) فعلته بأنه لا يجب عليه أن يكشف عن مصادره الخاصة. ولكن حتى بالأخذ بهذا السبب، فإن واجبات المهنة تقتضي أن يكون صاحبها أمينا جدا بأن يلجأ حقا لمصدر موثوق ويتحرى عن دقة المعلومة بوسائل أخرى تجعله متأكدا مما حصل عليه من مصدره الخاص.

وواقع الحال من تجارب عديدة كشف عن تهاون شديد يصل إلى حد التهور والمجازفة عند دخلاء المهنة، وذلك عندما ينشرون أخبارا أو معلومات سريعا ما يثبت عدم صحتها وخاصة فيما يتعلق بالحياة الشخصية للشخصيات العامة والشهيرة. والجادون، وهم قلة في هذا الزمان، غالبا ما يفضلون الاعتماد على وكالات الأنباء أو المواقع الرصينة أو المصادر الرسمية.

ومن جهة أخرى يضع الإعلاميون ممن يستسهلون المهنة أنفسهم بهذا العمل في خندق مروجي الإشاعات حتى لو لم يكونوا فعلا من هذه الفئة من الناس، فالترويج لخبر كاذب أو معلومة خاطئة لا يختلف مطلقا عن إطلاق الإشاعة حيث أن كل منهما يستند إلى جزئية صغيرة جدا من خبر عام هي صحيحة ولكن استكمال القصة يجعلها خاطئة تماما أو غير صحيحة، هكذا الإشاعة وهكذا التسرع بنشر خبر غير صحيح. وفي حالة حادث القطار وتعيين وزير جديد للنقل، هناك جزء صغير صحيح هو تحديدا توقع تعيين وزير بديلا للسابق الذي قدم استقالته بالفعل، ولكن ما تلى ذلك كبناء على هذه المعلومة لم يكن صحيحا بالمرة ويتساوى مع ترويج إشاعة ما. ومن جهة ثالثة فإن الاعتذار عما جرى أمر محمود بكل تأكيد وشجاعة من أصحابه حتى لا يخسروا تماما مكانتهم أمام الرأي العام، ولكن الواقعة تظل تطارد مصداقيتهم لزمن طويل.مثل هذا الفخ وغيره من أفخاخ كثيرة كانت حاضرة في المشهد الإعلامي العربي منذ غزو وسائل التواصل الاجتماعي لعقول ملايين من البشر ينتمون لأمة تكالبت عليها الهموم من كل جانب، يتعين أن تكون عبرة لهواتها والمغرمين بها من حيث إنها يمكن أن تفقدهم مصداقيتهم، ومن ثم عليهم أن يدققوا ويرهقوا أنفسهم ولو قليلا قبل أن يتطوعوا بنشر ما لديهم من معلومات وأخبار، وفي الوقت نفسه هي عبرة للجادين والحريصين على الاستفادة الأفضل من وسائل التواصل من حيث تعزيز الثقة لديهم بأنه لا يصح إلا الصحيح مهما كانت الظروف، ومن ثم مراعاة القواعد المهنية واللجوء للمصادر المشهود لها بالثقة وليدة التجربة، وفي المقدمة من ذلك البيانات الرسمية ووكالات الأنباء والمواقع الرصينة.