أفكار وآراء

التجربة السنغافورية في توفير السكن

06 مارس 2019
06 مارس 2019

عائشه بنت عبد الله العلوية -

هناك هدف مشترك يجمع سياسات توفير السكن في مختلف دول العالم وهو «توفير السكن الملائم للفرد أو للمواطن» بغض النظر عن حجم الدولة وحجم سكانها واقتصادها ونوعيته، وتطبق كل دولة هذا المبدأ الاستراتيجي في الخطط الإسكانية وفقا لعدد من الأبعاد الاجتماعية المتمثلة في مراعاة شرائح المجتمع المختلفة ذات الدخل المتدني وتوفير الدعم الحكومي اللازم لها، والاقتصادية التي تتمثل في توفير المناخ اللازم للاستثمار في قطاع اقتصادي حيوي وهام لأي دولة لكون هذا القطاع يعتبر محركا لقطاع الخدمات وتجارة التجزئة ومصانع إنتاج مواد البناء وأيضا كونه مشغلا للأيدي العاملة، إن توزيع هذه الأدوار ما بين القطاع العام والخاص هو مما لا تغفله السياسات الإسكانية عامة.

وغالبا ما تلتقي معظم تلك السياسات في بُعد الإنفاق الحكومي أو العام على قطاع الإسكان، فبعضه يخصص نسبة من الناتج المحلي لهذا القطاع ونجد ذلك بوضوح في سياسات الدول الأوروبية على وجه الخصوص وعلى سبيل المثال، كل من هولندا والسويد وبريطانيا تخصص ما نسبته ٣٪ من الناتج المحلي ويقطن مواطنو هذه الدول في مساكن حكومية بمقابل شهري، أما في النمسا والدنمارك وفرنسا وألمانيا فإن القطاع الخاص هو الذي يقوم بإنتاج المساكن التي تؤجر للمواطنين وتخصص هذه الدول ٢٪ من الناتج المحلي للسياسات الإسكانية، وفي دول مثل أيرلندا وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورج فإن نسبة تملّك المساكن من قبل المواطنين تعتبر عالية ما يعني أنها تمتلك قوانين مرنة تشجع المواطنين على امتلاك مساكنها.

آسيويا تعتبر التجربة السنغافورية على مستوى السياسات الإسكانية تجربة مميزة لنجاحها اللافت في تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية معا، حيث توجهت الحكومة السنغافورية إلى رفع نسبة الولاء لدى الشعب السنغافوري من خلال المسكن، فكيف كان ذلك؟

يهتم المجتمع السنغافوري اهتماما بالغا بملكية المساكن لكونها جزءا من ثقافة الشعب، فعملت الحكومة على إدخال هذا البعد الثقافي في صميم السياسات الإسكانية وحتى نهايات القرن الماضي كان ٨٥٪ من سكان سنغافورة يسكنون في عقارات الإسكان العام بعقود إيجار مدتها ٩٩ عاما، ويعتبر هذا تحولا في نمط السكن بعد أن كان معظم الشعب في خمسينات القرن يقطن في كهوف ومساكن غير ملائمة.

وفي بحث قامت به الجامعة الوطنية السنغافورية “سنو” أشارت إلى أن المبدأ الأول الذي عملت عليه الحكومة عند وضع سياساتها الإسكانية هو جعل الأسر تمتلك المنازل وفق إمكاناتها المادية وبدعم حكومي سخي، وذلك لأن الحكومة أدركت قوة العلاقة بين تملّك الأسر للمسكن والاستقرار المعنوي والاجتماعي والاقتصادي، وعند تولي “لي كوان” الحكم في سنغافورة عام ١٩٦٠ قال: “وأعلم أن سنغافورة لن تحقق الاستقرار السياسي إلا بوجود حكومة تتبنى وتعي أهمية تملك الأسر للمساكن، وما يحفزني إلى هذا هو أن أوفر لكل رب أسرة يخدم الوطن استقرارا نفسيا يمكنه من خدمة وطنه بشكل أفضل، كذلك لا أريد أن يشعر أي جندي يدافع عن البلد بأنه يدافع عن ثروات الأغنياء وممتلكاتهم، بل يدافع عن وطنه الذي يمتلك هو وأبناؤه جزءاً منه”.

لذا كانت هذه الرؤية للقيادة السنغافورية هي نقطة التحول في سياسة الإسكان والنمو المضطرد لمعدل تملك المساكن، حتى أصبح 90.8 في المائة من الأسر السنغافورية تمتلك مساكنها في عام 2015.

وقد دعمت الحكومة هناك سياساتها بعدد من العناصر بهدف تحقيق الاستدامة فسنت القوانين والتشريعات التي تسمح للحكومة بشراء الأراضي الخاصة المناسبة لإقامة مشاريع إسكانية بأسعار رخيصة وبما يعادل ٢٠٪ فقط من قيمتها السوقية، كما التزمت الحكومة سياسيا على مدى الخطط المتعاقبة بدعم الإسكان العام من خلال “هيئة الإسكان والتنمية”، وعملت أيضا على تقديم إعانات وقروض مالية تشجيعا للمواطنين على التملك وتضافرت مع هذا الهدف جهود المنظمات والبرامج الأخرى بالدولة لتشجيع مؤجري المساكن العامة “الحكومية” ليصبحوا مالكي مساكنهم وذلك بتقريب الفرق بين قيمة الأقساط الشهرية للمساكن المؤجرة مقارنة بأقساط المساكن المملوكة.

لقد جاء ذلك انطلاقا من هدف عملت الحكومة السنغافورية على تحقيقه وهو مجتمع يمتلك كل أفراده مساكنهم.

لابد أن السكن يمثل قيمة أجتماعية كبيرة بالنسبة لأفراد المجتمع وكذلك قيمة اقتصادية بالنظر إلى الكلفة التي تصرف على تشييده وتهيئته للسكن، وسنطلع في مقالات قادمة على تجارب إسكانية أخرى وسنسلط الضوء على سياسات التمويل الحكومي، وثقافة الأفراد ونظرتهم الى نوع السكن ومستواه.