الملف السياسي

كثيرا من المواقف المبدئية... قليلا من السياسات العملية

04 مارس 2019
04 مارس 2019

د. صلاح أبو نار -

كان المشهد السياسي في شرم الشيخ فيما بين 24 و25 حافلا بكل المقاييس. هناك اجتمعت أول قمة عربية – أوروبية جامعة ورسمية حضرها 48 قائدا سياسيا، يمثلون أكبر كتلتين إقليميتين على ضفتي المتوسط: الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية. ولكن مع نهاية المشهد وصدور بيانه الختامي، اتضح انه بقدر ما كان مشهدا حافلا كان احتفاليا.

وفي إمكاننا أن نعثر على مؤشر لهذه المفارقة في العنوان الذي اتخذه المؤتمر نفسه :«في استقرارنا..نستثمر». عنوان جدير بمؤتمر دولي للاستثمار الاقتصادي، وليس بأول قمة جامعة لكتلتين إقليميتين يواجهان تحديات مصيرية.

حضر من دول الاتحاد الأوروبي مستشاران ورئيسان للجمهورية، و18 رئيسا للوزراء وأربعة وزراء للخارجية. ومن مؤسساته دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي، وفدريكا موغيرني ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس اللجنة الأوروبية، وجوهانز هاهن مفوض الاتحاد لسياسة الجوار الأوروبي والمفاوضات الموسعة. وحضر من دول الجامعة العربية ملكان وأمير، و8 رؤساء دول و4 رؤساء وزراء، وأربع وزراء خارجية ومسؤولان. ومن الجامعة ذاتها السفير احمد أبو الغيط أمين عام الجامعة العربية وكبار أعوانه.

ماهي الدلالات التي يمكننا رصدها خلف هذا الحشد رفيع المستوى؟

سنعثر من جهة أولى على وعي الأزمات القوية التي تواجهها الكتلتان، كل في مجالهما الداخلي وفي علاقاتهما مع النظام الدولي. وسنعثر من جهة ثانية على وعي عمق التأثيرات المتبادلة بين أزمات المجالين الأوروبي والعربي، فكلاهما يصب في الآخر بحكم منطق علاقات الجوار الجغرافي، وبحكم فيضان تداعيات أزمات المجال العربي مثل الهجرة والإرهاب إلى جوارها الأوروبي، وبحكم كثافة العلاقات الاقتصادية بين الكتلتين. وسنعثر من جهة ثالثة على وعي الأزمة العميقة التي يواجهها الآن النظام الدولي، بفعل تحولات السياسة الخارجية الأمريكية، وبفعل تمدد واتساع الأدوار الروسية والصينية عبر أشكال مختلفة، وبفعل أزمة التحالف الغربي بموقعه المركزي والقيادي في النظام العالمي، وبفعل أزمات النظام التجاري العالمي وبدايات تفكك الإجماع من حوله، وفي النهاية بفعل الأزمات الدولية النشطة من الهجرة مرورا بالإرهاب الدولي وانتهاء بالبيئة والمناخ.

ويمكننا أن نجد العوامل الثلاثة واضحة داخل الإعلان الختامي للقمة.

تكون الإعلان النهائي من 17 بندا، ولم تصاحبه أي وثائق ملحقة. شكل البندان الأول والثاني ما يماثل الديباجة، والبندان 16 و17 خاتمة وشكر، وبهذا ينحصر صلب البيان في البنود من الثالث إلى الخامس عشر.

يتعامل البند الثالث مع القضايا والأزمات الدولية، ويعود إليها الإعلان في البنود من 12 إلى 15. وتبدو تلك القضايا والأزمات الدولية عبر عدة صور. تبدو الأولى موجهة ضد التحولات الجارية في السياسة الأمريكية. وتتضح في مطالبة البيان بضرورة الالتزام بنظام دولي غير أحادي ومتعدد الأطراف، واحترام النظام الدولي المبنى على القانون، والالتزام بالمنظومة الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية. وداخل تلك الصورة من السهل ملاحظة نقد النزعات الدولية الأمريكية الراهنة، من أحادية القيادة إلى عدم احترام التعهدات الدولية مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والسياسات التجارية الحمائية. إلى الانسحاب من الاتفاقيات الدولية: المناخ، والاتفاقية النووية الإيرانية، واتفاقية الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى، واتفاقيات التجارة العالمية الإقليمية.

وتبدو الصورة الثانية موجهة إلى نمط من الأزمات الدولية يتولد ويتصاعد في النطاق الجغرافي الجامع بين دول الاتحاد والدول العربية. هنا يشار إلى ضرورة العمل على مواجهه الأزمات المولدة للهجرة الجماعية العلنية إلى أوروبا، والهجرة السرية إليها وما يرافقها من اتجار بالبشر، والإرهاب العابر للقارات، وانتشار الأسلحة الخفيفة.

وتبدو الثالثة والأخيرة في التشديد على جملة من القيم الاستراتيجية الدولية، مثل منظومة حقوق الإنسان، وإرساء قيم التسامح الثقافي والديني، واستراتيجية التنمية المستدامة 2030.

وتتناول البنود من 4 إلى 11 قضايا المنطقة العربية عبر اكثر من صورة.

تتبدى الأولى في صورة الأزمات الإقليمية الحادة. في أزمة الشرق الأوسط، أعاد التأكيد على حل الدولتين، والعودة إلى حدود1967، ورفض السياسات الإسرائيلية الاستيطانية، واحترام القرارات الدولية المحددة لوضع القدس وتاريخية الأماكن المقدسة، ودعم الانوروا، ومواجهة الوضع المتردي في غزة، واحترام الإجماع الدولي المستقر حول القضية الفلسطينية. وخلف هذا التشديد سنلاحظ بسهولة رفض التوجهات الأمريكية الجديدة صوب المشكلة، من القدس إلى صفقة القرن إلى الاونروا إلى اللاجئين. وتحظى الأزمات الأخرى بإشارة واضحة لكنها اقل تفصيلا من إشارات أزمة الشرق الأوسط.

في ليبيا شدد البيان على دعم العملية السياسية الراهنة التي تقودها الأمم المتحدة، وطالب الأطراف بالتهدئة ونبذ العنف.

وفي اليمن أكد على اتفاقية استوكهولم، وقرارات مجلس الأمن الخاصة باليمن، واستنكر الوضع المتردي للمدنيين مطالبا الضالعين في النزاع بالسماح بوصول الإغاثة للمدنيين، وامتنع عن إدانة أي طرف يمني من أطراف النزاع.

وفي سوريا كانت لهجة البيان أعلى وأشد من الحالتين السابقتين. فطالب بالمضي في العملية الانتقالية وفقا لإعلان جنيف 2012، وادان كافة الأعمال الإرهابية والعنيفة التي ارتكبت ضد الشعب السوري «أيا كان مرتكبها»، مطالبا بمحاسبة المسؤولين عنها.

وتتبدى الصورة الثانية في الطموحات المستقبلية بشأن العلاقات بين الكتلتين. وسنعثر هنا على سلسلة الإشارات التقليدية في أي وثيقة دولية تنزع لتوطيد التعاون الإقليمي بين كتلتين سياسيتين، أي بناء شراكة قوية في مجالات: التنمية المستدامة والاستثمار وامن الطاقة والتبادلات التجارية والتعاون في مجالات العلم والتكنولوجيا والبيئة. اصبح الاتحاد الأوروبي الآن اقل اعتمادا على الطاقة العربية، فهي لا تساهم فقط 23% من إجمالي استهلاكه للنفط، و19% من الغاز، لكنها نسبة يمكن أن تولد تأثيرات خطرة في الأزمات المفاجئة. وإذا أخذنا في اعتبارنا الانتقال السريع للغرب صوب الطاقة الخضراء، سيصبح اهتمام الاتحاد بالعلاقات الاقتصادية مع العالم العربي، مصدره الحقيقي تنمية المصالح الأوروبية في المنطقة، ودعم العملية التنموية فيها بما يجعلها اقل ملائمة لتوليد الهجرة والعنف والاضطرابات الداخلية، التي ستتدفق بعد ذلك إلى أوروبا.

وكل ما سبق جيد تماما ولكن المشكلة انه قيل في وجهيه الدولي والإقليمي مرارا وبصوت أقوى وعبر وثائق ومنتديات دولية كبرى ومؤسسية. ولا بأس من إعادة التوكيد على المبادئ، ولكن كيف نفسر هذا الاقتصار على المبادئ دونما الخوض في السياسات العملية؟. ولماذا على سبيل المثال لا الحصر لم يستغل المجتمعون هذا الحشد الهائل لإنشاء آلية دولية جديدة لمفاوضات دولية حول القضية الفلسطينية؟

الأرجح أن ما شهدناه في شرم الشيخ في جوهرة مبادرة أوروبية اكثر منها عربية، كان الطرف العربي فيها مستجيبا اكثر منه فاعلا. هذه المبادرة تشكل بداية عملية أوروبية طويلة ومركبة للخروج من أزمة النظام الدولي الراهنة من جهة، ومحاولة لتأمين بنيوي وإجرائي للظهير العربي الجنوبي كمصدر لتدفق المهاجرين والإرهاب العابر للقارات من جهه أخرى. ولكنها كخطوة في هذا السبيل تحدد حجمها ونطاقها بأوضاع قوة الطرفين المشاركين فيها. لا يبدو الطرف الأوروبي حاليا مؤهلا لماهو اكثر من أمنيات وخطوات بسيطة. فالشعبوية الصاعدة تعصف باستقرار النخب الحاكمة ومعها مؤسساتها، والاتحاد الأوروبي يواجه عملية تفكك أبعد من بريكست مع تآكل الإجماع من حوله، والتهديد الروسي يأتيه من الشرق في صورة نزوع روسيا لاستعادة مجالها الحيوي والاقتحام الروسي الفظ لمجالاته الداخلية، والتغلغل الاقتصادي الصيني العميق.

والولايات المتحدة تنفض يدها من التحالف الغربي، ومصداقية الناتو كدرع للحماية الأوروبية تتراجع. وباختصار يبدو مهددا في عقر داره. هكذا لديه محركات قوية ومتصاعدة تدفعه للفعل الخارجي المستقل، لكن الإمكانيات القادرة على دعم وإدارة هذا الفعل تتضاءل، وبالتالي نراه محاصرا بين الدوافع والإمكانيات.

ولا يبدو عالمنا العربي أسعد حالا. لديه أيضا دوافعه للتحرر من مظلة التحالف الأمريكي، وبناء تحالفات إقليمية موازنة للقوة الأمريكية، بعد أن دلته خبراته المريرة على التقلبات الحادة في إدارتها والمنطق الإكراهي الذي تحمله في بعض لحظاتها، وبعد انحسار التأثير العربي في واشنطن مع انحسار قوة النفط. ولديه دوافعه صوب فعل تنموي مستديم، بعد أن اختبر بعد 2011 مدى هشاشة هياكله الاجتماعية والسياسية. ولديه دوافع لتبني منهجا جديدا لمواجهة التحدي الإسرائيلي، بعد الفشل الذي انتهت إليه خياراته القديمة. لكنه أيضا يعاني من ضعف القدرة والموارد القادرة على دعم طموحاته. فالدولة القومية انهارت في اكثر من بلد مخلفة دمارا وحروبا ممتدة. وثمة أزمات واضحة في تجديد النخب السياسية في بعض البلدان، تجعلها أما مشلولة أو تأتي معها بنخب شابة لكنها مغامرة. وبات يعاني اختراقات متغلغلة في نظامه الإقليمي بما يجعله منهمكا في فعل دفاعي منهك ومتصل. ثم جاء التراجع القوي والثابت في أسعار الطاقة، ليقلص إمكانياته المادية.

وهل معنى ذلك إننا أمام عملية بلا مستقبل؟ قطعا كلا. بل عملية طلعاتها اكثر من طاقتها، ووعودها الراهنة اكثر من إنجازاتها المتوقعة. ولكن المسافة بين الوعود والطاقات مسافة نسبية، ستتقلص بمضي الوقت، وتتراجع بعمق بواقعية الإدارة.