أفكار وآراء

المراحل .. فترات لا تقبل الاحتراق

03 مارس 2019
03 مارس 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

أستحضر هنا؛ وأنا أبدأ هذه المناقشة قول الله عز وجل: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة، يخلق ما يشاء، وهو العليم القدير) –الروم – الآية (57)، حيث تبين هذه الآية الكريمة خط سير المراحل العمرية التي يمر بها كل كائن حي، وإن خص الإنسان هنا بالذكر، لكونه المخلوق العاقل الذي يستوعب هذا التدرج المرحلي في كل مرة .

كما لا يوجد أبدا أن هناك فرصة لتجاوز مرحلة على حساب أخرى، فلا فراغات بيضاء بين المراحل يمكن تجاوزها، وطبعا لكل مرحلة استحقاقاتها من معززات التكون والتحقق على أرض الواقع، وهذا ما نعيشه جميعنا، ونستوعبه جميعنا أيضا، فالمسألة ليست لغزا محيرا، ويحتاج إلى كثير من عناء التفكير، فالصورة وفق هذا التجلي الرائع واضحة جدا.

إذن المسألة برمتها في جميع أوجه الحياة متوقفة على تسلسل المراحل، مرحلة تلو الأخرى، وكل مرحلة قادمة هي متوقفة على المرحلة التي كانت قبلها، تأسيسا، ونموا، وإنتاجا، وإن كان في خضم كل مرحلة، هناك مكونات معززة للبقاء والاستمرار، هذا لكي تكون هناك فرصة لهذا الكائن الحي ليحقق ذاته وقدراته، ومواهبه، ومكتسباته من الحياة التي يعيشها، حيث يضيف في كل مرحلة من المراحل التي يمر عليها الشيء الذي يعينه على تجاوز مرحلته اللاحقة، وإخصابها بمكونات معززة للبقاء والاستمرار.

ولا فرصة هنا لما يردده العامة وفق تعبير «حرق المراحل» وهو التعبير الذي يشير إلى أنه يمكن تجاوز مرحلة على حساب مرحلة أخرى، وأنه ليست هناك ثمة ضرورة لأن نمر على كل المراحل حتى يتحقق المشروع على أرض الواقع، ولذلك، لمن يؤمن بهذه العقيدة فإن هناك نقصا ما في مساحة التفكير الواقعي والقريب من حقائق الكون التي تتجلى في مشاهد كثيرة بدءا من طلوع الشمس، ومنازل القمر المتتابعة حتى آخر الشهر، وصولا إلى التدرج الذي يعيشه الإنسان ضمن مخلوقات كثيرة، والحياة برمتها قائمة على التدرج المرحلي، حيث لابد من الاستقصاء الكامل للأسباب والمسببات حتى يكتمل الإنجاز بالصورة التي يجب أن يكون عليها، وبخلاف ذلك تبقى جل مشروعاتنا في هذه الحياة مبتورة، ومهلهلة ومرتبكة.

ما يشغلنا هنا أكثر، هو المشروع التنموي، لارتباطه الوثيق والكبير بالحياة اليومية، ولأنه يحظى بأهمية خاصة، فهو الأولى لأن تقاس كل الأنشطة الإنسانية اليومية بمدى توافقها مع هذا المشروع؛ من عدمه؛ لأن أي إخلال بهذا المشروع، ولو في جزئياته الصغيرة؛ يقينا؛ سوف يربك العملية برمتها، فالتنمية من الثوابت الأساسية التي لا يجوز فيها تطبيق «حرق المراحل» وإلا لظهرت على الواقع تنمية مبتورة، مترهلة، برامجها مشوهة، ونتائجها لا تلبي الحاجات الأساسية لطالبيها، قد تأتي عوامل طارئة أو مسيسة، بفعل الفساد، لتحد من استحقاقاتها الزمنية للتأصيل، ولكن تبقى هذه صور استثنائية، أم الأسس التي يجب أن تقوم عليها التنمية هي استكمال دورات تطورها ونموها بما تستلزمه من كل القوى الفاعلة فيها، والمؤسسة لها، وينظر هنا إلى كل معززات التنمية من القوى البشرية، والقوى المادية، وحجم الإنتاج ومستواه، ومخرجات العملية التنموية برمتها، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن تدفع بقوى عاملة غير مدربة ومؤهلة تأهيلا عاليا للمساهمة في نجاح مشروع التنمية، فتعبير «مِشّي حالك» يعكس صورة مترهلة وضعيفة في التعامل مع مشروع وطني كبير بحجم التنمية، وهذا يستلزم الأخذ بكل متطلبات هذه المشروع، بدءا من تعزيز القاعدة الأساسية – مجموعات الطلبة في المراحل الثلاث – مرورا بالمراحل الجامعية، وصولا إلى مرحلة الوظيفة، التي تتطلب إعدادا نوعيا من التدريب، وتضخيم العائد المعرفي باستمرار، ولعلني استحضر هنا مقاربة، أراها شديدة الوضوح، وهي درجات التقاضي؛ حيث تبدأ من المحكمة الابتدائية، ثم الاستئناف، وصولا إلى العليا، كل ذلك لاستكمال حيثيات القضية، ومدى نصاعة الحكم الصادر بعد ذلك، حيث؛ في أغلب الأحيان؛ لا ظالم ولا مظلوم، وما ينطبق على مشروع التنمية؛ كمثال كبير؛ ينطبق على اشتغالاتنا في الحياة اليومية، فعلاقتنا مع الآخر، لا يمكن أن تبدأ من التعارف اللحظي في موقف أو مناسبة ما، والانتقال منها إلى الامتزاج أو التداخل «المفرط» أو الكامل في كل تقاسيم الحياة بما فيها الحياة الخاصة، فما هو معروف أن مراحل العلاقات الاجتماعية تبدأ بالتعرف عن قرب، ومن ثم تبادل المصالح – بغض النظر عن ماهيتها هنا – ومن ثم لا بد أن تصل إلى مرحلة التقييم، وبعدها يمكن الحكم على نجاحها، أو الانسحاب منها، أما في مسألة تجاوز هذه المراحل، فإن النتائج كانت قاسية على كلا الطرفين، وذات المثال ينطبق على مراحل العلاقات السياسية، وإن كان هذا النوع من العلاقات يكتنفه التعقيد أكثر لتشعباته المختلفة: في السياسة، والاقتصاد، والثقافة والاجتماع، والجغرافيا، كما أنها تتضمن معاهدات واتفاقيات، وفرق عمل، وبرامج محصنة بتواقيع وشروط محكمة، ولذلك فهناك أناس كثيرون يظلون مصدومين بقوة تأثير الخسارة عليهم، لأنهم تلقوا ضربات قاسية، من أناس ما كان يتوقعونه منهم، لأن كل العلاقات القائمة سواء بين البشر فيما بينهم، أو بين البشر وبما يحيط بهم من مكونات وعناصر، لا يمكن الحكم على ديمومتها وبقائها واستمرارها إن لم تستكمل دورتها الصحيحة في التأسيس، وبالتالي متى تم تجاوز محطات تأسيسها بالعشرة، والتعامل، والوقوف على معززات البقاء، ومعرفة مختلف التباينات بين الطرفين، يحكم على هذه العلاقات بدنو أجلها بلا منازع، ولذلك فهناك أناس يرون في كثير من ممارساتهم اليومية أنه لا ضرورة إلى صناعة معطيات على أرض الواقع لكي يحكم على المشروع على أنه فاشل أو ناجح، وإنما يكتفى بما تجود به تلك اللحظة، فهذه مرحلة؛ يبدو أن العالم قد تجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك، من حيث التخطيط السليم، ووضع البرامج والاستراتيجيات، كل ذلك لاستجلاء الصورة، والتيقن التام بجودة النتائج.

«حرق المراحل» ممارسة لا تهتم كثيرا بـ «البنيوية» ولا تضع اعتبار تحقق البنى الأساسية أولا على أنه محور مهم، بل تسجل قفزات، تكاد تكون، غير منظورة أفقيا، بقدر ما هي ملموسة واقعيا بتحققها على الأرض، وهذا بقدر ما هو من شأنه أن يضاعف في زيادة السرعة المتوقعة، لكنه يترك الكثير من الخسائر، قد تكون بعض هذه الخسائر مؤلمة، وثقيلة، وليس يسيرا تعويضها، لذلك يأتي بناء الأسس أولا ضرورة قصوى قبل الدخول إلى التنفيذ، ومن ثم الوقوف على التقييم مباشرة، فهذه الصورة وبهذا العرض لا يمكن البناء عليها على أنها الصورة المثلى، وأرى أنه من الأهمية بمكان، ما بين جنبات هذه المناقشة، النظر أيضا إلى مراحل الوعي التي يمر بها الفرد، منذ بدايات التكوين الأولى بين أحضان الأسرة، مرورا بمراحل التعليم المتدرجة؛ هي الأخرى، وصولا إلى حضن المجتمع، فكل هذه المناخات الإنسانية، والاجتماعية، والثقافية، وحالات التأثر والتأثير، تأتي في سياق متدرج ومرسوم، وإن كان غير ملموس بصورة مباشرة، حيث تتوغل المفاهيم المختلفة في كل هذه المناخات، ويظل استيعابها، وترجمتها على الواقع، بالقدر الذي استطاع هذا الفرد، أو ذاك أن يهضم هذه الصور كلها؛ مع النظر؛ أن الناس يبقون متفاوتون في هذا التوظيف، كما يبقون في حالة تلقي مستمرة للعوائد المعرفية، ولكن وفق هذا السياق المتدرج.

اختم هنا بإسقاط هذا المفهوم «حرق المراحل» بالنظر إلى مجموعة الأساليب التي يستخدمها الخارجون عن القانون، فهؤلاء لا يهمهم كثيرا مسألة التدرج، ومسألة العلاقات التي تربط مختلف الموضوعات، لأن في ذلك كشفا لأساليبهم الخارجة عن القانون، ولذلك هم يتحايلون على القانون، ويتجاوزون المراحل التي تمر بها الموضوعات لكي تستكمل دورتها الكاملة، فاللصوص؛ أينما كانت السرقة؛ وحدهم من يستخدمون أساليب «حرق المراحل» وخاصة اليوم، فليس مطلوبا منهم أن يتسوروا الحواجز الحديدية أو الإسمنتية، ويكفي أن يأتوك من عبر أسلاك الشبكة المعلوماتية «الأنترنت» ليقفوا على كل تفاصيل حياتك الخاصة، وكل مدخراتك المالية، لأنهم آمنوا بأن لا سبيل إلى الوصول إليك إلا بالقفز فوق الحواجز.