أفكار وآراء

ظاهرة «داعش» في نشوئها ومآلاتها وتداعياتها

02 مارس 2019
02 مارس 2019

ماجد كيالي -

برزت «داعش» كقوة تهديد، وكظاهرة صاعدة، في صيف 2014، مع سيطرتها على مدينة الرقة، في سوريا، ثم على مدينة الموصل في العراق، لكنها بدأت بالانحسار في العام 2017، أي بعد ثلاثة أعوام، بعد خروجها من الموصل، وانحسار نفوذها في العراق ثم في سوريا (2018)، وهي باتت هذه الأيام تخوض آخر معاركها، على الأرجح، في شمالي شرق سوريا، وهو ما بشّر به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مؤخّراً.

مع ذلك فربما إن ظاهرة «داعش» لن تختفي بصورة نهائية، فهكذا تنظيمات لديها من السيولة ما يمكّنها من الاستمرار بشكل أو بآخر، أي حيث ثمة مناخات تتيحها، أو حيث ثمة توظيفات تطلبها، أو تسهّل لها، بيد أن اليقينيَّ في شأن تلك الظاهرة أنها انتهت تماما، إن لجهة قدرتها على البقاء في منطقة معيّنة، أو لجهة فرض أجندتها فيها، كما أنها انتهت، بالتأكيد، بوصفها قوة تهديد سواء في العراق أو في سوريا، سيما مع آخر المعارك التي تشهدها بعض المناطق في الحدود السورية ـ العراقية.

وللتذكير فقد ظهرت «داعش» في أبريل 2013 في العراق، لكنها برزت كقوة خطيرة مع سيطرتها على مدينة الرقة في شمال غربي سوريا، في يناير 2014، بعد انسحاب «جبهة النصرة» وبعض الفصائل «الإسلامية» منها، في ذلك الحين، والتي كانت تسيطر عليها، إثر انسحاب الجيش السوري منها (أبريل 2013) أيضا، في مصادفة غريبة أو مثيرة للتساؤل، وهو ما اعتبر بمثابة البداية لصعود هذه الظاهرة البشعة في المشهد السوري.

رغم ذلك فإن الظاهرة الداعشية لم تتوطد إلا بسيطرتها على الموصل، في يونيو 2014، حيث أعلنت منها الخلافة، وإقامة «الدولة الإسلامية»، وذلك إثر انسحاب الجيش العراقي من تلك المدينة، بطريقة كيفية وغامضة (إبان حكم المالكي)، ما أدى إلى استحواذها على أسلحة أربعة فرق عسكرية، ومئات ملايين الدولارات في المصرف المركزي.

هكذا، فمنذ ذلك الحين باتت داعش تسيطر على أراض شاسعة في سوريا، في الرقة ودير الزور والطبقة، وفي العراق في الأنبار وصلاح الدين ونينوى، مع حرية حركة بقوافل سيارة بين باديتي العراق والشام، ومع تجارة في النفط مكنت «داعش» من الاستمرار في تمويل أنشطته.

بيد أن ما يفترض إدراكه، أو الانتباه إليه، هنا، أولاً، أن معظم النظم المحيطة بسوريا والعراق، أو التي تشتغل كفاعل محلي في هذين البلدين، ساهمت في تخليق «داعش» وأخواتها، أو السماح بوجودها، بطريقة أو بأخرى، مباشرة أو مواربة.

يأتي ضمن ذلك، أيضاً، الدول الغربية التي سكتت عن المقتلة الفظيعة في سوريا والعراق، والتي اكتفت بمراقبة نمو ظاهرة «داعش»، من بلدانها، وسكتت عن الوافدين من مواطنيها للمشاركة في القتال، مع أنها اشتغلت على عدّهم وتنظيم أضابير لهم.

ثانياً، ما تقدم يفيد أن نشوء «داعش» ولاسيما صعوده، وتطور إمكانياته، واحتلاله المشهدين السوري والعراقي، لم يأت بنتيجة تطور طبيعي في الحركات الإسلامية، سواء الدعوية والمعتدلة أو المقاتلة والتكفيرية، بقدر ما إنه يعود إلى الشروط المساعدة، أو إلى التسهيلات التي مكنته في حيازة الموارد المالية والعسكرية (بخاصة بعد سيطرته على الموصل)، كما إلى تباين إرادات الفاعلين الإقليميين والدوليين، الذين أتاحوا له الاستمرار والتمدد، بل ووظفوه كلاّ لأغراضه السياسية. ولعل هذا ما لاحظه الخبير في شؤون الإسلام السياسي أوليفيه روا باعتباره أن «داعش»، والمنظمات المتشددة المسلحة، هي وليدة العولمة، وما بعد الحداثة، أكثر من كونها وليدة بيئاتها الشعبية.

ثالثاً، يمكن ملاحظة أن الأطراف التي ادعت محاربة الإرهاب لم تشتغل على استهداف «داعش»، بدليل أن قواته كانت تتحرك بحرية شبه مطلقة وفي مواكب سيارة في مناطق مكشوفة بين باديتي العراق والشام، كما ذكرنا، وبدليل أن «داعش» لم تسيطر على معظم المناطق، في العراق وسوريا، بنتيجة مواجهات أو معارك عسكرية جدية، بقدر ما إنها سيطرت عليها نتيجة انسحاب الجيشين العراقي والسوري، أو بنتيجة انسحاب فصائل عسكرية «إسلامية»، وبدليل أننا شهدنا أن «داعش» لم يصمد في أي منطقة تمت مواجهته بها في سوريا والعراق، وأنه ظل يهرّب قواته، من منطقة إلى أخرى، على مرأى من كل التحالفات الدولية. رابعاً، يستنتج من كل ما تقدم أن «داعش» هي بمثابة تنظيم من نوع خاص، أي ليست حركة سياسية طبيعية، وليست نتاج حراكات سياسية في التيارات الإسلامية في مجتمعي العراق وسوريا، إذ المصطنع فيها أكثر من العادي، والخارجي أكثر من الداخلي، وهي نتاج الغضب والإحباط، كما هي نتاج صعود التيارات الدينية وهبوطها. أيضاً، هذه ظاهرة جرى تصنيعها وتضخيمها وتوظيفها لإدارة الصراعات المحليّة أو للتحكّم بها، أو كأداة للصراع بالوكالة، إذ لكل فاعل إقليمي ودولي «داعش» خاصّته.

خامساً، ما ذكرناه لا يعني أن «داعش» يتبع دولة معينة، رغم أن ثمة أنظمة معينة سهلت قيامه، فهكذا ظاهرة يكفي فقط تخليقها كي تولد دينامياتها وحيواتها الخاصة، لكن يفترض أن نلاحظ في هذا السياق أن هناك من استفاد من داعش وأن روسيا مثلا لم تقاتل داعش بمعنى حقيقي، مع سعي إلى تحويل الصراع السوري إلى مجرد حرب ضد الإرهاب؛ علماً أن هذه القوى أقل شيء حاربته هو «داعش»، وفي المقابل فإن أقل شيء حاربه «داعش» هو هذه الأطراف، بانشغاله بمقاتلة واستنزاف المعارضة السورية، وقضم المناطق التي كانت تسيطر عليها. سادساً، وأخيراً، فإن ظاهرة «داعش» (وجبهة «النصرة») أدت فيما أدت إليه إلى تقويض صورة وشرعية التيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة، سيما أن هذه التيارات لم تشتغل على نزع شرعية الجماعات المتطرفة والإرهابية، ولم تشتغل على تمييز نفسها عنها، بتفنيد منطلقاتها، المتعلقة بالجهاد والتكفير والجاهلية والحدود والخلافة والحاكمية. هل انتهت «داعش»؟ أو هل انتهت التوظيفات التي أنشأتها أو سهلتها؟ وهل آن أوان حل الصراع السوري؟ هذا ما يفترض معرفته في الأشهر القليلة القادمة.