أفكار وآراء

هزيمة «داعش».. نهاية مرحلة لمعركة ممتدة

23 فبراير 2019
23 فبراير 2019

د. عبدالعاطى محمد -

في الجدل الدائر بين العواصم الغربية حول مصير تنظيم «داعش» هناك موقفان، أحدهما يرى أن التنظيم دخل مرحلة الاحتضار إن لم يكن قد انتهى وتتبناه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والآخر يرى أن التنظيم لا تزال له بقايا يمكن أن تنشط مستقبلا، أو أن يرثه تنظيم آخر على غرار ما جرى بعد هزيمة «القاعدة» حيث نشأت «داعش» من بقاياها، وتتبناه دول غربية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا.

وبما أن الموقف الغربي منقسم بهذا الشكل، تجد دول المنطقة التي عانت من الجماعات الإرهابية نفسها في موقف لا تحسد عليه، فالانقسام الغربي حول قضية خطيرة كهذه يعنى إما أن العواصم الغربية قررت أن تنفض يديها من المواجهة مستقبلا بعد أن كانت شريكا قويا في الحرب على هذه الجماعات، أو اهتمامها سيتراجع بشدة، وعليه تصبح دول المنطقة المعنية المسؤولة وحدها عن المواجهة سواء انتهى «داعش»، أو احتضر، أو عادت «القاعدة» مجددا، أو ظهرت تنظيمات إرهابية أخرى بمسميات جديدة.

وبالطبع فإن لكلا الموقفين الأمريكي والأوروبي حججه في تقديره للحالة التي وصل إليها تنظيم داعش من حيث إذا كانت تشير إلى استمرار الخطر أم لا، أو أنه لم يعد مؤثرا، ولكل منهما حساباته السياسية في التعامل مع هذا الخطر وتداعياته ووزنه، ولكن تباين التقديرات الغربية يضع دول المنطقة المعنية مباشرة بخطر الجماعات الإرهابية في حالة من التردد أيهما تصدق، التقديرات الأمريكية أم الأوروبية، ومن عدم اليقين بإمكانية أن يستمر الزخم الغربي القوى المناهض لهذه الجماعات. كما أنه يجعلها تشعر وكأن قضية المواجهة مع هذه الجماعات قد عادت إلى المربع الأول حيث المقولة الغربية الشهيرة بأن الظاهرة تتعلق ببيئة الدول التي خرجت منها هذه الجماعات، ومن ثم فإنها من الآن ومستقبلا عليها أن تقاتل وحدها!

الرئيس الأمريكي ترامب هو الذي بادر وبشكل مفاجئ في الحقيقة بالإعلان عن نهاية «داعش» استنادا إلى المعلومات التي وردته من آخر معاقل التنظيم في سوريا تحديدا بعد أن تلقى الهزيمة من قبل في العراق، وجاءته المعلومات إما من قواته القليلة الباقية في سوريا أو من قوات سوريا الديمقراطية شرق الفرات المدعومة من الولايات المتحدة.

ولأنه كان صريحا من البداية من حيث عدم رغبة بلاده الاستمرار في الحرب داخل سوريا وتأكيداته المستمرة بأن قواته ذهبت إلى هناك للقضاء على «داعش» ولم يعد يهمها مصير الأزمة السورية من الناحية السياسية، لأنه كان معنيا بهذا أساسا، تحمس إلى إعلان نهاية التنظيم لكي يبرر خروج قواته من سوريا برغم أن ذلك أغضب حلفائه ليس الأوروبيين وحدهم، بل قوات سوريا الديمقراطية (أكراد سوريا) التي لم تخفِ خطورة خروج القوات الأمريكية حتى لا يقف لأكراد سوريا وحدهم في مواجهة تركيا التي لا تقبل أي نشاط لهم في الشمال.

لم تكن الدول الأوروبية على اتفاق مع ترامب في مسألة الانسحاب من حيث المبدأ انطلاقا من أن الأزمة السورية لم تضع نهايتها بعد وليس واضحا في الأفق إمكانية ذلك في الأجل المنظور. ولكن ما أثار حفيظتها وقلقها هو الموقف الأمريكي مما بات يعرف ببقايا «داعش» أو فلول التنظيم ذات الأعداد التي لا تتعدى الألف مقاتل حسب المصادر الأمريكية.

هنا وكعادة ترامب في عدم التردد في الاصطدام بحلفائه الأوروبيين، غرد سريعا مطالبا الدول الأوروبية ممن لديها مقاتلين يحملون جنسياتها بين بقايا التنظيم، بأن يتسلموا هؤلاء البقايا ويعيدونهم إلى بلادهم ويحاكمونهم وفق قوانينهم، وإلا فإن قواته التي تتحفظ على هؤلاء ستضطر إلى تسريحهم، أي أن تطلقهم أحرارا يهيمون على وجوههم!!.

قال ترامب في تغريدته: «دولة الخلافة آيلة للسقوط، والبديل ليس جيدا.. قد نضطر لإطلاق سراح هؤلاء المسلحين».

وفي تقديرات الأمريكيين أن عدد هؤلاء بين 800 و1000 مسلح ينتمون في معظمهم إلى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. وجاء رد الفعل من كبار المسئولين في الدول الثلاث بالرفض السريع لمطلب ترامب. وتباينت أسباب الرفض ما بين الاعتبارات السياسية التي ترفض من حيث المبدأ قبول إرهابيين والاعتبارات القضائية التي تتعلق بالتأكد من انطباق القوانين وطرق المحاكمة على هؤلاء قبل أي شيء آخر. فقط قالت فرنسا على لسان وزيرة العدل إنها ستعيد المقاتلين على أساس مبدأ «كل حالة على حدة» في إشارة أساسا إلى إمكانية إعادة القصر.

في منطقتنا العربية لا يبدو هذا الجدل الغربي هو مصدر القلق الرئيسي في التطور الذي لحق بالموقف الغربي من مصير الجماعات الإرهابية سواء «داعش» أو غيرها، وإنما الأهم هو الإجابة على السؤال الأخطر: ماذا فاعلة المنطقة تجاه ما بات يعرف ببقايا «داعش» كبيرة كانت أم صغيرة هذه البقايا، وذلك في ظل توجه الدول الغربية لنفض يديها من القضية؟!. يفيدنا هذا الجدل في التوصل إلى استنتاج مؤداه أن العواصم الغربية قللت جدا من اهتمامها بالقضية، مع أنها تؤكد أن خطر الجماعات الإرهابية سيظل قائما على الأقل في الأجل المنظور. وهى تتشاجر حول حفنة قليلة تصادف أنهم من أبنائها، هل تعيدهم أم لا وإذا أعادتهم كيف ستتعامل معهم. ولكنه موقف يؤشر إلى رسالة مفادهما «هذه بضاعتكم وقد ردت إليكم وعليكم وحدكم أن تتعاملون مع الجماعات الإرهابية مستقبلا بأنفسكم.

وما يؤكد ذلك أن هذه العواصم الأوروبية كانت قد تسلمت بالفعل في السنوات الماضية مئات العائدين من «داعش» وأجرت محاكمات للبعض وفرضت إجراءات أمنية لمنع خطرهم على أراضيها. ووفقا لتقرير المركز الدولي لدراسات التشدد التابع لجامعة كينجز كوليدج في لندن الصادر 2018 (نقلا عن بي. بي. سي) فإنه خلال خمس سنوات بين 2013 و2018 كان لفرنسا 1900 شخص في «داعش» ولألمانيا 960 شخصا ولبريطانيا 850 شخصا. ووفقا لتقرير للاتحاد الأوروبي فقد عاد لأوروبا 1765 من حملة جنسياتها السنوات الماضية (بينهم جنسيات أوروبية أخرى)، وأن نصف من غادر بريطانيا قد عاد وتليها ألمانيا و12% فقط من الفرنسيين. وأخذا ذلك في الاعتبار فإن الجدل بين أوروبا والولايات المتحدة حول عودة عدد ليس بالكثير ما كان له أن يحدث لأن هذه العودة حدثت بالفعل في السابق، وما إثارة الخلاف حولها الآن إلا شكل من أشكال المناكفة بين ترامب وخلفائه الأوروبيين ومزايدة عليهم واستعراضا من جانبه أمام قواعده الجماهيرية في الولايات المتحدة. ولكن تبقى الرسالة الخطيرة التي يمثلها هذا الجدل بالنسبة لحسابات دول المنطقة المعنية فيما يتعلق بالمواجهة المستقبلية مع الجماعات الإرهابية.

عندما ظهر «داعش» 2014 كانت التقديرات تشير إلى أن عدد مقاتليه وصل إلى أكثر من 41 ألف مسلح جاءوا من 80 دولة. ولا شك أن التنظيم قد لاقى هزيمة شديدة في العراق (مع تحرير الموصل) وأنه احتضر فعلا في معاقله بالرقة وشرق الفرات بسوريا، وفي الأسابيع الأخيرة تمكنت قوات سوريا الديمقراطية من حصر آخر قواته في منطقة لا تتعدى 700 متر مربع، وكان ترامب محقا عندما تحدث عن أن دولة داعش آيلة للسقوط. ومع ذلك وبتقديرات من القادة الأمريكيين في مناطق المواجهة لا يزال خطر التنظيم قائما، استنادا إلى عدد من الحقائق التي يصعب تجاهلها منها أن كثيرين من مسلحي التنظيم انخرطوا في المدنيين ومن ثم أصبحوا خلايا نائمة تنتظر العودة للعمل مجددا، وكثيرين منهم أيضا انضم إلى آلاف النازحين بعد تحرير الموصل وعاش وسطهم بعد أن غير هيأته كما عاد الآلاف منهم إلى أوطانهم بشكل أو بآخر على مدى السنوات الخمس الماضية، وأن قيادة التنظيم لا تزال فاعلة، وأجهزتها الإعلامية لا تزال تعمل وتوجه رسالة جديدة للفارين من المعارك، فبعد أن كانت تقول لهم انضموا إلى دولة داعش أصبحت تقول لهم «ابقوا في أوطانكم وقوموا بالهجمات من هناك»، بما يعنى أن العمليات من الممكن أن تستمر، حتى لو تم تشكيل تنظيم جديد من رحم بقايا «داعش»، مع الأخذ في الاعتبار أن المسلحين كانوا ينتمون إلى 80 دولة كما سبقت الإشارة. ومن جهة أخرى فقد أشارت التجارب أن هذا النمط من الجماعات الإرهابية يسمح بالانتقال من جماعة إلى أخرى لأن الفكر واحد في نهاية المطاف.

ما يدفع إلى القلق ويجعل افتراض امتداد المعركة مع جماعات التطرف الإرهابية قائما هو أن العوامل التي تسببت في ظهور وانتشار هذا الخطر لا تزال قائمة بغض النظر عن تحقيق انتصار مهم هنا أو هناك. فلا تزال هناك حاضنة مجتمعية ووسائل دعم داخلية وخارجية وأزمات سياسية واقتصادية خانقة، وأضيف الآن عدم الاكتراث الغربي، وكلها تجعلنا أمام نهاية مرحلة لمعركة لا تزال ممتدة.