أفكار وآراء

ميونيخ.. وعالم من شظايا البلور المكسور

22 فبراير 2019
22 فبراير 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

غطت أعمال قمة وارسو الأيام الفائتة على التحضيرات التي جرت على قدم وساق من أجل انطلاق مؤتمر ميونيخ للأمن العالمي في دورته السنوية المعتادة، وان كانت الأنظار توجهت لاحقا إلى حيثما يلتئم شمل نحو خمسمائة من السياسيين صناع القرارات الدولية والمفكرين والمنظرين لأحوال كوكب الأرض المتألم، والذي باتت أحواله كشظايا البلور المكسور إن جاز لنا استعارة التعبير من قصيدة الرائع نزار قباني.

السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه أمام نخبة ميونيخ: هل من لديه القدرة أو الرغبة في الأوقات الراهنة على التصدي والتحدي لما جاء في تقرير ميونيخ الأمن الدولي، والذي يقع في نحو مائة صفحة من شؤون العالم القلق نهارا والمؤرق ليلا، والتي سيتم التشاور من حولها ؟».

على عتبات هذا التجمع المؤثر والكبير كان رئيس المؤتمر(فولفغانغ ايشينغر) يشير إلى أن الآمال التي طرحها المؤتمر العام الماضي في محاولة لإنقاذ العالم من شافة الهاوية قد تبخرت، وان الأسوأ ربما لم يأت بعد....

هل الرجل متشائم اكثر مما يجب أم أنها حقائق دولية يضعها أمام ناظري المجتمعين على الأرض الألمانية؟

الحقيقة المؤكدة في حاضرات أيامنا أن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وكذا الحرب الباردة قد انتهيا، وان فراغا مخيفا يكاد يهيمن على الساحة الدولية، وفي اختلال واضح وفاضح لقضية التوازنات الأممية التي حفظت للعالم كثيرا من امنه وأمانه منذ العام 1945 وحتى أوائل تسعينات القرن المنصرم.

مآزق عدة وليس مأزق واضح يواجه ويجابه من يطلق عليهم (حراس النظام الليبرالي) العالمي، وأصحاب الاتجاه النيوليبرالي، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، أما النموذج الديمقراطي الغناء، فحدث عن فشله في الكثير من المواقع والمواضع حول العالم، لا سيما في الداخل الأمريكي، وعلى غير المصدق متابعة التقدم الكبير للتيار الاشتراكي الديمقراطي الأمريكي، في أحياء واضح لأفكار كانت تمثل جريمة يطارد بسببها المريدون في خمسينات القرن العشرين.

عالم اليوم المتشظي تجاوز مسألة الثنائية القطبية من جهة، وقد كانت مدعاة لراحة الكثيرين، فالتقسيم الكوني يومها كان مريحا، قطبان يدور في فلكهما العالم شرقا وغربا، أما اليوم فأقطاب متعددة وان تجاوزت في حظوظها من القوة والمنعة الجغرافية والديموغرافية، العسكرية والاقتصادية، لكنها أضحت أرقاما صعبة على مائدة تقسيم العالم المعاصر ما بعد يالطا من جديد.

في مقدمة أوراق ميونيخ كابوس مواجهة نووية عالمية يتجدد ثانية بعد أن خيل للكثيرين أن زمنه قد ولى، وإذ بالماضي لا يموت، لا سيما بعد تعليق العمل باتفاقية الحد من الصواريخ النووية المتوسطة المدى من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الأمر الذي سيؤدي إلى نتيجتين مؤكدتين، الأولى تتصل بتدهور الوضع بالنسبة إلى مكونات مراقبة التسلح، والأمر الآخر يختص بتضاؤل احتمالات تجديد واشنطن وموسكو العمل بما يسمى (اتفاقية ستارت الجديدة ) حول الأسلحة النووية الاستراتيجية بعد انتهاء مهلتها عام 2021... هل لهذا لم يبق على اقتراب عقارب الساعة النووية من القارعة سوى دقيقتين فقط لا غير؟

يمضي الوفد الأمريكي إلى ميونيخ، وقد خلفوا من ورائهم رئيس أضحى حجر عثرة لا ركن زاوية وبناء في سياق النظام العالمي المضطرب، والبدايات من عند الحليف الأوروبي الساعي إلى جيش موحد، في توجه لا تخطئ العين قراءته وانسحابات واضحة لجهة مستقبل حلف الناتو من جهة، وإرهاصات مولد فجر اوراسيا التاريخية من ناحية أخرى.

أوروبا التاريخية في قمة ميونيخ حائرة ومشتتة القرار داخليا وخارجيا، مهمومة ومحمومة بالراغبين في الانفصال عن الاتحاد، وفي المقدمة بريطانيا التي يخشى الكثيرون أن تكون كعب أخيل في البناء الأوروبي الذي حلم به الجميع ذات مرة، وعلى البعد الجغرافي أوروبا غير الواثقة في مقدرتها على مواجهة الإرهاب، وهي من واجه ذات مرة في النصف الأول من القرن الفائت النازية والفاشية وتغلبت عليهما معا.

أظهرت النقاشات التي دارت في ثنايا وحنايا مؤتمر ميونيخ، وبشكل خاص خلال الجلسات التي تحدث فيها الأمريكيون والألمان، أن الهوة تتسع يوما تلو الآخر ما بين جانبي الأطلسي وبصورة لم يكن لأحد أن يتخيلها من قبل أي في زمن الترابط الأوروبي الأمريكي ومواجهة الاتحاد السوفييتي... ما الذي جرى وما دلالاته ؟ الشاهد أن الذين تابعوا أعمال ميونيخ قدر لهم أن يروا السجال الساخن بين نائب الرئيس الامريكي ( مايك بنس) مع المستشارة الألمانية ( انجيلا ميركل) في شأن ملفات دولية ساخنة عديدة في مقدمتها إيران وروسيا وسوريا.

في الجلسة التي تحدث فيها ( بنس ) شن الرجل هجوما حادا على الأوروبيين بشكل عام، وبين السطور كانت ألمانيا بوصفها القائد السياسي للقاطرة الأوروبية تحصل على الجزء الأكبر من الهجوم، وقد كرر بنس اكثر من مرة اتهامه للجانب الآخر من الأطلسي بتقويض العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران، وذلك بعد جولة سابقة من الانتقادات العلنية لميركل على هامش مؤتمر وارسو.

بدا بنس متماديا إلى درجة بعيدة، حيث اعتبر أن ميركل ( تؤيد علنا محرقة جديدة )، وتسعى لدعم أغداء أمريكا، ومضيفا: انه حان الأوان ليوقف شركائنا الأوروبيون تقويض العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وليقفوا إلى الجانب الإيراني.

يمضي « بنس» وراء رؤى رئيسه دونالد ترامب، وهذا أمر طبيعي، لا سيما إذا تعلق الأمر بمسألة العلاقات الاقتصادية، فهو يسعى بدوره لأن تضحى الولايات المتحدة الأمريكية ومن جديد رقم واحد على مستوى العالم اقتصاديا.

يتذكر العالم برمته والأوروبيون بنحو خاص الهجوم الذي شنه الرئيس ترامب على دول أوروبا، حين اتهمهم بانه يسعون إلى واشنطن لتوفر لهم الحماية من صواريخ روسيا النووية في الحال، وربما صواريخ الصين المماثلة في الاستقبال، لكنهم مع ذلك يسعون إلى شراء الغاز من روسيا.

بنس في ميونيخ أثار هذه الإشكالية مرة جديدة حين كرر معارضة واشنطن لخط أنابيب« نورد ستريم 2» لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا تحت بحر البلطيق قائلا:« لا يمكننا دعم الغرب من خلال التحول إلى الاعتماد على الشرق»، وتطرق إلى « التهديد الذي تشكله» شركة « هواوي» الصينية، وتابع: « علينا حماية بنيتنا التحتية الحساسة في مجالات الاتصالات، وان أمريكا تدعو شركاءها الأمنيين إلى الحذر».

ما جاد به بنس يبين لنا أن الأمن العالمي بالفعل في أزمة بعد اختلاف التوجهات الأوروبية الأمريكية وبنوع خاص في منطقة الشرق الأوسط حيث النفوذ التاريخي للقوة الأوروبية التي كانت استعمارية ذات يوم، أو حتى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي أضحت ومنذ الحرب العالمية الثانية حتى الساعة رمانة الميزان في المنطقة، غير أننا نرى وبشكل واضح للغاية أن هناك تباعدا في المشهد الشرق أوسطي بين الأوروبيين والأمريكيين ما تبدى بشكل واضح ومثير في الأزمة السورية، ومعها الموقف من إيران، ولا ينسى القارئ كيف أن ميركل حذرت من عواقب انسحاب القوات الأمريكة من سورية متسائلة « هل هي فكرة جيدة للأمريكيين الانسحاب فجأة وبسرعة من سوريا؟

ألن يعزز ذلك قدرة روسيا وإيران على ممارسة نفوذهما ؟

السؤال المهم بدوره في مساقات العلاقات بين الجانبين:«هل تدفع اختلالات التوازن الأوروبي الأمريكي إلى نهاية حلف الناتو ونشوء وارتقاء تحالف جديد يميل البعض إلى تسميته بالمولود الاوراسي الجديد؟

خذ إليك دفاع المستشارة ميركل في مواجهة بنس بسبب مسألة استيراد الغاز من الروس، فقد ردت على نائب الرئيس الأمريكي بالقول:« إذا كنا خلال الحرب الباردة استوردنا كميات ضخمة من الغاز الروسي، لا اعلم لماذا يجب أن تكون الأوقات أسوا كثيرا الآن، من أن نقول إن روسيا مازالت شريكا ؟ وسألت : هل نريد أن نجعل روسيا تعتمد على الصين فقط؟ هل تلك هي مصلحتنا الأوروبية ؟ وأضافت: « إن أوروبا لا يمكن أن تكون لها مصلحة في قطع كل علاقاتها مع روسيا من الناحية الجيو استراتيجية.

امن العالم في خطر حقيقي سيما بعد الانسحاب الأمريكي من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى، الأمر الذي سيدفع الروس بنوع أول والصينيين بنوع تال إلى إنتاج المزيد من تلك الأسلحة وهذا ما عبرت عنه ميركل والتي باتت ترى أوروبا محصورة من جديد بين الروس والصينيين شرقا، والولايات المتحدة الأمريكية غربا، ولهذا نادت بأعلى صوت ممكن لها في نهاية خطابها في ميونيخ بانه « لابد من السعي لحلول مشتركة بدلا من التصرف بشكل منفرد..لابد أن نكون جميعا معا».

الذي يفرق العالم آنيا اكثر بكثير من الذي يجمعه، وفي حال غياب القيادات العالمية السياسية التاريخية، واضمحلال رجالات البراجماتية المستنيرة القادرة على التفكير بعزم والعمل بحزم لإنقاذ « أمنا الأرض»، من مآلات نهاية العنصر البشري، يضحى القادم مخيفا، وبنوع خاص في ضوء إعادة ترتيب جيوبولتيك العالم من منطلقات تصادمية لا وفاقية..

هل من مثل يدلل على ما نقول به؟

فلينظر القارئ إلى الأوضاع الاقتصادية حول الكرة الأرضية وفي العام 2019 تحديدا حيث المخاوف من الحروب لم تعد عسكرية فقط، بل تجاوزتها إلى الحروب التجارية وما يحدث بين واشنطن وبكين يؤكد على أن ضحايا كثر من الجانبين ربما يسقطون صرعى الاقتتال على المكاسب الاقتصادية كآلية تمهد الطريق لبداية مرحلة مغايرة من السيطرة والهيمنة على العالم.

مخاوف « إيشينغر» لم تعد محصورة في الأرض برا وبحرا، إذ أضيف إليها عنصر جرى تجديده، انه عسكرة الفضاء بأسلحة غير مسبوقة، ونقل مستويات المواجهة من الأرض إلى السماء.

ضيوف ميونيخ في مأزق تاريخي آخر موصول بصعود قاتل للشعبويات اليمينية أوروبيا وأمريكيا، من جهة، وبإرهاب غير عنقودي وذئاب منفردة ومنفلتة من ناحية مقابلة، وفي الحالين غياب مانفستو حقيقي غير «ابوكريفي» يهدف إلى تقزيم هؤلاء وتقليص أولئك إلى زمن الاندثار.

مسكين هو « اييشينغر»....من سيساعده في إعادة بناء نظام الأمن العالمي في ظل حالة التفكيك والأجزاء المتناثرة على غير هدى هذه.؟