أفكار وآراء

دروس تنموية ميدانية

20 فبراير 2019
20 فبراير 2019

مصباح قطب -

[email protected] -

شاركت منذ أيام في المؤتمر السنوي السادس لكيان معني بخلق فرص عمل في القرى الفقيرة بالصعيد جنوب مصر، وخاصة للنساء والفتيات في الريف، واسمه «المبادرة المصرية للتنمية المتكاملة (النداء)». أقيم المؤتمر في مدينة الأقصر الساحرة، ولأن صاحبة المبادرة بتأسيس ذلك الكيان هي الدكتورة هبة حندوسة - أستاذ الاقتصاد - إحدى أهم خبيرات التنمية المتكاملة، في المنطقة، وهي التي وهبت حياتها لهذا العمل بكل تجرد ونبل، يحرص أهل الخبرة والاختصاص ورجال وسيدات الأعمال المعنيون والأكاديميون البارزون والوزراء الحاليون أو السابقون والمحافظون على الحضور والمشاركة في فاعلية المؤتمر السنوي، إلى جانب أنها دعت خبراء من الهند والصين ومن «اليونيدو» والبنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة.

كان عنوان مؤتمر هذا العام هو «التجمعات (الكلاسترز) والتنمية الاقتصادية»، حيث تم التطرق إلى كل الجوانب التي ترتبط بالموضوع مثل: الزراعة والسياحة والتمويل والتسويق والتخطيط والتقييم والمتابعة والتطوير والتنظيم، وكذا دور التكنولوجيا والضخ المعلوماتي المستمر والاتصال بالميديا في مساندة مثل تلك التجمعات، وإلى جانب المناقشات الغنية بالعبر والدروس والخبرات المتنوعة، تم تنظيم زيارات ميدانية لمعمل منتجات الألبان في واحدة من أفقر القرى القابعة في حضن الجبل، ومصنع أثاث به 60 امرأة عاملة، ومصنع ملابس جاهز هو الأول من نوعه في الإقليم المقام به، ومشغل منتجات نحاسية وتطريز، ومشروع صوب زراعية ومزارع سمكية، ومشاريع توعوية ومحو أمية ورعاية أطفال صغار، وكلها أقيمت بدعم فني من النداء وقدر من التمويل بمشاركة مع جمعيات تنمية مجتمع محلية كل في تخصصه، وذلك بمحافظة قنا جنوب مصر. من جمع كل ذلك أود التنويه إلى أهم ما يمكن أن يعنى به قراء «عمان» أو يعنى به كل مهتم بتنمية المجتمعات المحلية وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة وإقامة تجمعات إنتاجية أو خدمية بطريقة سليمة يمكن من خلالها تعظيم التكامل بين المشاريع ورفع القيمة المضافة وفتح آفاق التطور المستمر أمامها.

أول ما لفتني هي الإضافات الهندية المميزة لمثل هذا النوع من التجمعات، بحيث إن الهند لم تكتف بإقامة وزارة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، بل أقامت جهازا متخصصا لتنمية التجمعات الإنتاجية ودعمها فنيا، وينص القانون هناك على جمع 2 % من أرباح التجمع لصالح أعمال المسؤولية الاجتماعية تجاه البيئة المحيطة.

الأعباء البيروقراطية التي تتحملها التجمعات وما أكثرها كانت محل جدال، فقد احتاج معمل الألبان مثلا إلى شهرين لإنهاء التراخيص وتسع موافقات منها موافقات من هيئة الاستثمار بالقاهرة على مبعدة 800 كيلومتر من المحافظة؛ لأن المعمل يقع في قرية تتبع مركزا تابعا بدوره للمحافظة، وكان ضعف التنسيق بين الأجهزة الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص الكبير وممثلي التجمع أحد أهم ما تم رصده، ولكن أحد الحاضرين الرسميين قال: إن الأمم المتحدة نفسها ليس فيها تنسيق بين أجهزتها، وتذكرت عند ذلك كيف يقول الأمريكيون: إن عدم التنسيق بين الأجهزة الأمنية/‏‏ المخابراتية عندهم مستمر على الرغم من عمل تعديلات تنظيمية وقانونية كثيرة لهذا الغرض وهكذا. تجربة الصين أوضحت أن حسن اختيار موقع التجمع وسرعة تخصيص الأراضي ودعم الطابع العائلي للتجمع وتطوير التكنولوجيا المستمر وعمليات التخزين والتبريد واللامركزية، كلها عوامل ساعدت على التطور المثير للآلاف من التجمعات في الصين.

ولاحظ خبير زراعي أن الريف المصري - كمثال - به درجة عالية جدا من التشابك الاجتماعي والتضامن، لكن التشابك الاقتصادي فيه ضعيف، ويبرز هذا جليا من ضعف التعاونيات المقامة بالريف، ولا أقول فشلها، وفي المقابل ذكر أستاذ مصري له تجارب دولية أن أبناء قرى في السودان نجحوا في إقامة تجمعات تتمحور حول سلسلة قيمة متكاملة قوامها الفول السوداني، حيث يتم الإفادة من قشره في صنع أخشاب، ومن زيوته، ومن حبات الفول كمأكول، إضافة إلى كل ما يخص النقل والتعبئة في هذا المجال.

كان واضحا حرص المناقشات على وجوب تحديد الهدف الأساسي من التجمع، وهل هو التوظيف أم النمو أم المشاركة في سلاسل القيمة بنجاح؟، وكان هناك إجماع أيضا على أنه لا بد في كل الحالات أن يجني «الكلاسترز» أرباحا فهو ليس عملا خيريا لضمان الاستدامة، وطالب حاضرون بالتمييز بين تجمعات تنشأ من البداية على أساس الابتكار والإبداع، وبين تجمعات تقوم بصناعات أو أنشطة تقليدية حتى وإن رغبت في تطويرها أو ممارستها بطريقة جديدة، وأخيرا بين التجمعات التي تنشأ أصلا لتوفير ما يسد الرمق لمن يعملون بها، والتمييز أيضا بين سرعة النمو بين تجمع وآخر، ونبه اختصاصيون إلى وجوب دراسة كيفية التخلص مما بعد المنتج (النفايات) داخل التجمع، والعناية بظروف وشروط عمل العمال وأجورهم، وابتكار أدوات لقياس المهارات وتقديرها. تمت كذلك الإشارة إلى قابلية أبناء البيئات الفقيرة للتدريب والتطور بسرعة، وأكبر دليل على ذلك النجاح الكبير الذي تحقق لمصنع شاشات أقامته «سامسونج» في منطقة فقيرة في محافظة فقيرة بصعيد مصر هي بني سويف، وكيف أن المهندسين والعمال - وجلهم من أبناء المنطقة - أضافوا إضافات نقلتها عنهم مصانع «ساسمونج» في العالم، كما قال مدير المصنع لنا.

تم التأكيد على حتمية أن تنتج التجمعات ما يحتاجه السوق وليس ما تستطيع إنتاجه، وبعدها تسعى لتسويقه، بل وأشار أكثر من متحدث إلى وجوب العناية طوال الوقت بالأسواق الخارجية أيضا مهما كان صغر المشروع؛ لأن التجارة الإلكترونية مكنت الكثيرين من تسويق منتجاتهم عبر الحدود بشكل لم يعد صعبا أو مكلفا، كما أن بعض الصناعات - مثل الحرف التراثية - جمهورها الأساسي هم السائحون، ويكفي أن نعلم أن 70 % من مبيعات المشغولات التراثية في مصر هي للسائحين، وهذا نوع آخر من التصدير، ويلزمه جودة عالية وأمانة وابتكار، كما يجب أن تقوم جهات حكومية بدراسة تفاصيل إنفاق السائحين على المشتريات في بلادنا وفي بلاد منافسة، وكم منها يذهب إلى اقتناء «السوفينيرز» أو الهدايا التذكارية، مع ضرورة اختيار لحظة الشراء، فالبيع للسائح يمكن أن يتم على أفضل نحو، وهو خارج للتو من مكان أثري أو تاريخي أثار إعجابه، فساعتها تنشط غدده الشرائية ويكون مستعدا للشراء أكثر ليقتني تحفة يدوية من ناحية، وذكرى للمكان الذي زاره واستمتع به من ناحية أخرى. حذر كثيرون من انتكاس بعض تجمعات كانت قد قطعت شوطا على طريق النجاح ووجوب المتابعة المستمرة والدعم الفني المتصل، فكم نبهوا إلى مسؤولية القطاع الخاص الكبير في أن يأخذ بيد تلك التجمعات وأنشطتها، ويقدم الخبرة والعون بل والمنح لمن يرى جديتهم، علما بان الأنشطة الصغيرة لا تقلد الكبيرة وليس مطلوبا منها أبدا أن تنسخ تجارب الشركات الكبيرة؛ لأنها لن تتمكن من أن تنافس إلا في حالات قليلة مثل ورش دمياط الصغيرة للأثاث التي تشكل معا سلسلة إنتاجية تتفوق إنتاجيتها على أحسن المصانع الكبيرة كما أخبرنا راصد لذلك.

ومما خبرته ميدانيا أيضا الحاجة إلى سماع أصوات العاملات في التجمعات أو المشاريع ومقترحاتهن للتطوير؛ لأن الشائع في ثقافتنا أن المدير أو المهندس المختص «عارف كل حاجة»، وأنه لا يمكن توقع الكثير من سماع الفتيات أو السيدات العاملات، ولفت نظري أيضا أنه من المهم أن يفكر التجمع في احتياجات المجتمع المحلى بقدر ما يفكر في السائحين أو المبيعات الخارجية؛ لأن ذلك يضمن له حدا أدنى من الطلب من ناحية، وقدرا كبيرا من مساندة المجتمع المحيط وتشجيعه وتقبله من ناحية أخرى، ولا ننسى أن المشروع عادة ما يشترى كل مدخلاته من جهات محلية بأسعار رخيصة - ثمن كيلوجرام اللبن الخام في القرى الفقيرة نصف ثمنه من المزارع الكبيرة -، فلا أقل من أن ينتج لها أيضا بعض المنتجات بأسعار رخيصة تناسب مستويات الدخول، وهي محدودة في أغلب قرى الصعيد.