546346
546346
المنوعات

محمد الحضرمي يبحث عن منابع النور وسط جمال المحاريب

18 فبراير 2019
18 فبراير 2019

في كتابه الصادر عن جمعية الكتاب ودار مسعى -

■ محمد الحضرمي -

العمانية: تخفي الجدران أحاديث كثيرة لا يسمعها إلا من امتلك حسا مرهفا تجاه تفاصيل الجمال، وتجاه الزمان والمكان.. وأحاديث الجدران تصبح أكثر أهمية وأكثر أسرارا كلما كانت الجدران عتيقة تماهت مع الزمن، وسمعت أفراحه وأتراحه، وسمعت حكايات الشكوى والشوق، وكانت شاهدة على انهمار الدموع خوفا وورعا وشوقا للقاء محبوب. ويبدو أن الصحفي والكاتب محمد بن سليمان الحضرمي من أولئك القلة الذين يمتلكون حساسية مفرطة تجاه الجدران القديمة، وهو ما نستنتجه بسهولة عندما نتصفح إصداره الجديد «وحي المحاريب.. تأملات في المساجد العمانية المزدانة بالزخارف الجصية»، الصادر حديثا عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار مسعى، وهو كتاب بحثي توثيقي عن المحاريب الجصية في المساجد العمانية، ولكنه في الوقت نفسه أيضا كتاب تأملي، يحضر فيه حس الحضرمي وحساسيته تجاه الأشياء بشكل واضح جدا.

فالحضرمي في كتابه لا يكتفي بالبحث عن السياق التاريخي، ولكنه بعد أن يصغي لكلمات التاريخ يفتح عينيه على آخرهما، ليستطيع استيعاب النور المنبثق من بين ثنايا المحاريب والمساجد القديمة، فيدخل في حالة هيام مع المكان ومع جماله، ويبدأ رحلة تأمله الذاتية، ثم نراه يشد الرحال باتجاه مساجد العبّاد، وهي مساجد ربما تنفرد بها عمان، حيث تقام في أماكن قصيَّة من المدن والقرى، يختلي فيها العباد بربه ويبثونه شوقهم للقياه، فيرصد صدى الشوق الذي كان في تلك المساجد للقاء الله سبحانه وتعالى، كما يحاول أن يمسك بقطرات الدمع التي تتساقط من خشية الله ومن شدة الوجد تجاهه. وذلك يحضر بين صفحات كتاب محمد الحضرمي الكاتب والصحفي ويحضر محمد الحضرمي الأديب صاحب الحس المرهف.

يترحل الحضرمي في كتابه بين أكثر من 30 مسجدا في مختلف مدن عمان وقراها القديمة، هدفه الأول تأمل المحاريب، لكن من خلال ذلك يستقرئ كلام التاريخ، ويبحث عن أسرار فن النقش في عمان، وأنماط الزخارف ودلالاتها، ويقرأ أدب الجدران من أبيات شعرية، ومن حكم ومن مختلف فنون الكتابة، التي أغرت النقاشين على خطها على جدران المساجد ومحاريبها.

ويؤكد الحضرمي في كتابه أن العمانيين أعطوا المساجد الكثير من الاهتمام، وبشكل خاص المحاريب، ولذلك تفننوا في نقشها، ورغم أن أقدم المساجد التي رصد نقشها وزخارفها الحضرمي في كتابه تعود لمنتصف القرن السابع الهجري في منطقة سعال بنزوى، إلا أنه يذهب للقول: إن فن زخرفة المحاريب ظهر في أزمنة مختلفة قبل ذلك، ولكن تلك المساجد هدمت لأسباب كثيرة بعضها يعود لأسباب تتعلق بفكرة إعادة البناء، وبعضها نتيجة تهدم وتداعي أركان تلك المساجد، والآخر ربما لأسباب تتعلق بالحروب، لكن الحضرمي أيضا يصل إلى أن تاريخ بناء المساجد أقدم أحيانا من تاريخ زخرفتها، على اعتبار أن الزخرفة دليل استقرار ورخاء اقتصادي وثراء من قبل من قام بالنقش أو أمر به.

تبدأ رحلة الكتاب مع خمسة جوامع، كانت في يوم من الأيام منارات نور، ولكنها أصبحت أثرا بعد عين، ولم يبق لها حضور إلا عبر كتابات التاريخ. فيبدأ الحضرمي مع جامع قلهات الذي أتت عليه الأحقاد الدينية والاستعمارية فهدمه القائد البرتغالي المحتل البوكيرك عام 1508م، ويستخرج الحضرمي من بطون الكتب الكثير من أوصاف الجامع، ويبدأ في رسم صورة ذهنية عبر اللغة له، لكن الحضرمي يستعين في رسم تلك الصورة بما قاله ابن بطوطة الذي زار الجامع، وبما نقله البوكيرك نفسه في مذكراته التي جمعها ابنه. يقول ابن بطوطة واصفا المسجد: «وبها مسجد من أحسن المساجد (يعني قلهات) حيطانه بالقاشاني، وهو شبه الزليج، وهو مرتفع ينظر منه إلى البحر والمرسى». لم يكتف الحضرمي بذلك بل ذهب ووقف على ما بقي من أطلال المسجد بعد أن أعلنت نتائج التنقيبات في قلهات العثور على أساسات الجامع.

ومن قلهات ينتقل الحضرمي إلى صحار وجامعها القديم، الذي ورد ذكره في كتب الرحالة، يستقرئ ما قالوا عنه ثم يبدأ في رسم صورته عبر أدواته اللغوية. وينقل الحضرمي عن المقدسي قوله في وصف جامع صحار: «والجامع على البحر له منارة طويلة في آخر الأسواق، قد بني أحسن بناء، وهواؤه طيب من القصبة، ومحراب الجامع بلولوب يدور، تراه مرة أصفر وكرة أخضر، وأحيانا أحمر» ثم يأخذ الحضرمي بعد أن يقدم لنا ما قاله الرحالة، في تخيل سواري وأعمدة المسجد المبنية بخشب الساج، والأعمدة المقواة بحجارة الآجَر، وصحن المسجد الواسع والمكشوف كعادة مساجد عمان، ثم يرسم صورة للنوافذ والقبة البيضاوية.

ومن صحار إلى سمد نزوى حيث جامعها القديم الذي لم يبق منه إلا ركن واحد فقط ولكنه قادر على رواية الكثير من تفاصيل وحكايات الجامع ومن كان إلى جواره.

وهدم الجامع في عام 1351هـ بعد أن كان جامعا متين البنيان، كثير الأعمدة التي وصلت إلى 36 عمودا كما يروي كبار السن، وكان للمسجد أوقاف كثيرة تعينه على أعمال الترميم وعلى الأنشطة التعليمية التي كانت تقام فيه.

وقف الحضرمي بين سواري الجامع فإذا بها تبوح له بالكثير من الأسرار والحكايات الغامضة، وإذا بصدى الكثير من القرون تستعيد نفسها، وإذا بالحضرمي ينتقل من الباحث إلى الأديب ويرصد كل تلك التفاصيل الساحرة. ومن سمد إلى العقر ومن ثم إلى نخل، يمسك الحضرمي بتفاصيل التاريخ وهو يتكلم.

وتطرق الحضرمي في كتابه إلى المشاريع السابقة التي حاولت تقصي المساجد العمانية القديمة والزخارف فيها وعددها وآخر تلك المشاريع القائمة مشروع توثيق الجوامع الأثرية في عمان والذي تقوم به وزارة التراث والثقافة منذ عام 2015 والذي وصل لرصد حوالي 344 مسجدا وجامعا قديما إلا أن الحضرمي تحدث عن مساجد وجوامع اندثرت ولم تصل أخبارها وربما كانت آية في الجمال والزخرفة.

ثم يتطرق الكتاب للحديث عن القرن العاشر الهجري الذي ازدهرت فيه حركة النقش وظهر فيه الكثير من النّقاشين المعروفين الذين ما زالت إبداعاتهم قائمة إلى اليوم تقاوم متغيرات الطبيعة والجغرافيا.

ومن بين أشهر النقاشين النقاش عبدالله بن قاسم الهميمي، ومشمل بن عمر المنحي وابنه طالب وحفيده علي بن طالب، وكذلك النقاش عيسى بن عبدالله بن يوسف.

ثم يتحدث الحضرمي عن أسر نقشية ظهرت في عمان وسماها «الأسر المحرابية» معرفا مصطلحه بأن هذه الأسر تشمل المبدعين الذين اشتغلوا نقشا وزخرفة في المحاريب، وأيضا الذين قاموا بتمويل تلك الأعمال وهو ما يعرف عند العمانيين بـ«القائم على المحراب». وكان النقاش يوقع على عمله فيكتب اسمه واسم من عمل معه، واسم القائم على المحراب. ولكن الغريب الذي يذكره الكتاب أن النقاشين خلال عشرة قرون لم يزيدوا على عشرة فقط، وفي بعض الأحيان يتوارث المهنة الابن عن أبيه حتى يصل الأمر إلى الحفيد.

ثم يتحدث الحضرمي في كتابه عن أنماط فن الزخرفة، ذاكرا الزخرفة بالآيات القرآنية ويرصد الآيات المكتوبة في المحاريب التي زارها، كما يقف على الزخرفة بالطاسات الخزفية، والزخرفة الجصية التي يسميها «عماد فن التنقيش على المحاريب»، ويتحدث عن الزخرفة الهندسية والنباتية والزخرفة الكتابية التي يستخدم في الغالب الخط الكوفي وخط النسخ.

ثم يخطو محمد الحضرمي في كتابه «خطوات نحو منابع النور» وهي المساجد القديمة الباقية التي فيها محاريب منقوشة وفيها لمحات جمالية. فيتعمق الحضرمي عبر استقراء «صحفي» كما يسميه، ولكن نقول: عبر قراءة جمالية ساحرة كما نرى.. فيقول: «حاولت أن أصيخ السَّمع لما تمليه عليّ ذاكرة المحاريب، وما تمنحه لي الجدران من إحساس شائق ورائق، تجعلني أعود بروحي إلى تلك القرون الماضية واستعيد حياة الناس الذين سبقوني إلى صحونها، ولامست أياديهم صروحها».. والحق أن الحضرمي نجح كثيرا في أن ينقل لنا ما سمعه من تلك الجدران، وما قرأه على تلك المحاريب، وأوصل لنا بالكلمة والصورة الكثير من الأحاسيس التي نستطيع أن نعيش معها وهج النور من منبعه الحقيقي.

وعبر استقراء جمالي لـ24 مسجدا وجامعا في مدن عمانية شتى يعيش قراء الكتاب تجربة فريدة تستحق العناء الذي لقيه الكاتب وهو يتنقل بكاميرته، ليرصد الجوامع والتغيرات التي طرأت عليها عبر السنوات. ويرصد بين كل زيارة وأخرى للمسجد نفسه ما كان عليه الجامع وما صار عليه، وفي الحقيقة في الكثير من المرات يتحسف الحضرمي أن الكثير من تلك الكنوز ضاع مع الزمن.

وفي سفوح الجبال يزور الحضرمي «مساجد العباد» التي يصفها بأنها «غرفات معلقة في السفوح»، ويصفها تارة أخرى بأنها «منفى إيماني» فهي مساجد بعيدة عن الأحياء السكنية، ولكنها قريبة من المقابر، يختلي فيها الزهاد لعبادة الله وحده، والبعد عن ملذات الدنيا، ويقتربون من القبور لتذكرهم بالآخرة. يقول الحضرمي: «حين زرت مساجد العباد في بهلا، أحسست بها تتسامى فوق السفح الصخري العالي، ومن حولها تتناثر القبور، جنة الموتى، ومدينة الآخرة، وحين زرتها في نزوى رأيتها بذات الشكل والشبه، وكأنها توائم». ولا تتميز مساجد العباد بالكثير من النقوش إلا ما كان في المحاريب وهو قليل بحسب الكتاب.

الكتاب الذي يقع في 200 صفحة جدير بالقراءة والتأمل، فهو رحلة ليست في المحاريب ومنابع النور المحيط بها، ولكنه رحلة في التاريخ وفي الجمال وعبقرية الهندسة والنقوش الجمالية. وبهذا المعنى سيكون كتاب الحضرمي بين الكتب القليلة التي ناقشت جماليات المحاريب من ناحية تاريخية ومن ناحية تأملية، بحثا عن عمق الجمال ولذته.