الملف السياسي

إحدى أدوات الصراع العالمي والمنافسة على امتلاك أحدث التقنيات

18 فبراير 2019
18 فبراير 2019

د. أحمد سيد أحمد -

الذكاء الاصطناعي أحد مقومات قوة الدولة بمفهومها الشامل، فلم تعد قوة الدولة فقط الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، بل أصبحت القوة التكنولوجيا وأنماطها وأشكالها المختلفة أبرز سمات قوة الدول في العصر الحديث.

الذكاء الاصطناعي ببساطة هو القدرة التي تبديها الآلات والبرامج بما يحاكي القدرات الذهنية البشرية بشكل أكثر احترافية، مثل القدرة على التعلم واستنتاج ردود الفعل على أوضاع لم تبرمج في الآلة، أي أن الذكاء الاصطناعي ببساطة هو أن تقوم الآلة أو الحاسوب أو الروبوت وغيرها من أشكال تقنيات التكنولوجية الحديثة بالأدوار التي يقوم بها الإنسان في مختلف المجالات، والهدف هو تقصير المسافة والزمن في تحقيق الأهداف، أي أن الإنسان الآلي أو الصناعي قد يحل محل الإنسان البشري في بعض الوظائف والمهام، والذكاء الاصطناعي بهذا المفهوم هو نتاج الثورة العالمية الرابعة التي تقوم على ثورة الاتصال والمعرفة والاقتصاد الرقمي، وقد أصبح مصطلح الذكاء الاصطناعي مرادفا الآن للتقدم ولمدى لحاق الدول بالعصر الحديث واستخداماته المختلفة وغيابه مؤشرا أيضا على تخلف الدول وتراجعها.

وقد برز دور الذكاء الاصطناعي في المجال المحلي بشكل كبير خاصة في أداء الوظائف البشرية واستخدام تكنولوجيا المعلومات والبرمجة في إنجاز العديد من المهام والوظائف والخدمات سواء التي تقوم بها الإدارات والوزارات الحكومية والمحلية أو في استخدام الذكاء الاصطناعي في تقديم الخدمات المختلفة للمواطنين بغية التسهيل والراحة وتوفير الوقت والجهد، وهو ما أكدت عليه الدورة السابعة للقمة العالمية للحكومات التي عقدت بدبي مؤخرا. وقد قطعت بالفعل العديد من الدول العربية مثل سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة والسعودية أشواطا كبيرة في طريق توظيف الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات الإدارية والاقتصادية بل والثقافية وإنجاز المهام والأعمال وقد تجل ذلك في الريبوت صوفيا، السعودي الجنسية، والذي يحاكي ويقوم بكل الوظائف التي يقوم بها الإنسان.

وفي مجال السياسة الدولية برز الذكاء الاصطناعي بشكل كبير خلال العقد الأخير حيث شكل أحد تجليات العولمة وعصر ثورة التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات، وساهم في جعل العالم قرية صغيرة مترابطة ومتشابكة، وبرزت آثاره في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية من عدة نواحٍ:

أولها: أن الذكاء الاصطناعي أحد مقومات قوة الدولة بمفهومها الشامل، فلم تعد قوة الدولة فقط الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، بل أصبحت القوة التكنولوجيا وأنماطها وأشكالها المختلفة أبرز سمات قوة الدول في العصر الحديث لما تشكله تلك القوة التكنولوجية من قدرة كبير على التأثير والنفوذ في السياسة الدولية وفي التفاعلات العالمية وفي تطوير الابتكارات، ويرتبط الذكاء الاصطناعي بعناصر القوة الأخرى، حيث تقوم الدول بتوظيف الذكاء الاصطناعي لتطوير القوة الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير التقنيات الحديثة التي تستطيع أن تنتشر بها في العالم، وقد برز ذلك في هيمنة دول مثل الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها على الاقتصاد التقني في العالم من خلال الهواتف الذكية والحاسوب والتي توفر للاقتصاد القومي لهذه الدول مئات المليارات من الدولارات وبما يفوق إنتاج وتصدير سلع أخرى تقليدية، ولذلك وجدنا تنافسا دوليا وعالميا على امتلاك وتطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من أجل فرض السيطرة والهيمنة على الاقتصاد العالمي.

ولذلك تحول الذكاء الاصطناعي في أحد جوانبه لأداة الصراع بين الدول، خاصة بين الدول الكبرى والمتقدمة، وشكلت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين كأحد أبرز الأمثلة على الصراع حول الذكاء الاصطناعي، حيث اتهمت الولايات المتحدة الشركات الصينية بانتهاك حقوق الملكية الفكرية وتطوير التكنولوجيا الأمريكية بشكل غير قانوني، وهو ما نفته الصين، وقامت الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات ضد شرطة هاواوي الصينية للهواتف الذكية واعتقال نائبة رئيس الشركة في كندا بتهمة سياسية، بينما كان أحد الأهداف الأساسية هو الصراع الأمريكي - الصيني على الذكاء الاصطناعي وتنافس كل منهما في هذا المجال. ثانيها: انتقال الذكاء الاصطناعي أيضا إلى المجال الأمني والعسكري العالمي، حيث أصبح إحدى أدوات الصراع والتوتر العالمي والمنافسة على امتلاك أحدث التقنيات العسكرية لتعزيز قوة الدول العسكرية والأمنية، وقد عبر الرئيس الروسي بوتين عن دور الذكاء الاصطناعي في المرحلة المقبلة قائلا: إن من يسيطر على الذكاء الاصطناعي سوف يقود العالم، وهو ما يعكس تطور مفهوم القوة العالمية وتحولها من القوة التقليدية إلى القوة التكنولوجيا وقد برز ذلك في تطوير أجيال جديدة ومتقدمة من أنواع الأسلحة المختلفة تفوق سرعة الصوت والضوء وتعتمد على الليزر وعلى الإنسان الآلي بشكل أساسي في صناعتها وتشغيلها، وهو ما أدى بدوره إلى اشتعال سباق التسلح العالمي بين الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين حيث قامت تلك الدول في الأعوام الأخيرة بتطوير أسلحة جديدة تقليدية وغير تقليدية ونووية مدمرة وأنواع متقدمة من الصواريخ الباليستية بعيدة المدى وكذلك الطائرات وأنظمة الدفاع الجوي، ويشكل الذكاء الاصطناعي والإنسان الألي محور هذه الصناعات، التي تحقق دخلا قوميا كبيرا من مبيعات الأسلحة للدول الأخرى، لكنها في المقابل تزيد من مخاطر عدم الاستقرار الأمني والسياسي العالمي، وتشعل سباقًا للتسلح يستنزف الموارد الطبيعية والبشرية وتوجيهًا للجانب العسكري على حساب الجوانب المدنية والتنمية خاصة مع تزايد التحديات العالمية مثل نقص الغذاء في ظل التغيرات المناخية وانتشار التصحر والأمراض وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والهجرة غير المشروعة وغيرها من المشكلات والتحديات التي تحتاج إلى تكاتف البشرية والدول لتوظيف التقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي في خدمة البشرية ومواجهة الأزمات والتحديات وليس الدخول في سباق تسلح جديد.

ثالثها: برز دور الذكاء الاصطناعي أيضا في التنافس والصراع العالمي والحرب بالوكالة بين القوى الكبرى والإقليمية، وقد برز ذلك في مساعي كل دولة للهيمنة على الفضاء الإلكتروني والتأثير فيه وتوجيهه لخدمة مصالحها وأجنداتها واستخدام أدوات الاتصال الجديدة مثل وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر، كذلك استخدام الإنترنت وأدوات البحث فيه مثل جوجل وغيرها، للحصول على بيانات الأفراد والأشخاص في مختلف أنحاء العالم واستخدامها في أغراض مختلفة سواء للأغراض التجارية عبر بيعها لشركات أخرى، أو استخدامها لأغراض سياسية وأمنية واختراق حسابات العديد من الأفراد، وقد اعترفت إدارة الفيسبوك بذلك، كما برز أيضا الذكاء الاصطناعي في الصراع السياسي بين الدول، كما حدث في الاتهامات المتبادلة بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن التدخل في الانتخابات، حيث اتهمت الإدارة الأمريكية في عهد أوباما روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 لصالح أحد المرشحين ضد المرشح الآخر واختراق حواسيب الحزب الديمقراطي وتسريب بيانات أعضائه ومحادثات البريد الإلكتروني والاجتماعات، وهو ما أثر على فرص فوز المرشحة هيلاري كلينتون أمام ترامب، وقد نفت روسيا هذه المزاعم، لكن في كل الأحوال أصبح استخدام الذكاء الاصطناعي شائعا في مجال السياسة الدولية وفي الصراع بين الدول، وفي أعمال التجسس والاختراق الداخلي وانتقل الأمر أيضا إلى الفضاء الخارجي ومحاولة السيطرة عليه ليس فقط للأغراض المدنية، بل أيضًا للأغراض العسكرية عبر التقنيات الحديثة والمتقدمة، كما برز الذكاء الاصطناعي أيضا فيما عرف بالثورات البرتقالية وثورات الربيع العربي، حيث استخدمت بعض الدول الذكاء الاصطناعي فى لعب دور في تلك الانتفاضات والاحتجاجات لتحقيق أهداف وأجندات خاصة بها تحت مظلة دعم الإصلاح والتغيير.

وبشكل عام أصبح الذكاء الاصطناعي هو أحد مؤشرات السياسة الدولية في القرن الحادي والعشرين، وأخذ دور الذكاء الاصطناعي يتزايد بشكل كبير في مجال الدبلوماسية عبر استخدام التقنيات الحديثة والروبوتات في أداء المهام الدبلوماسية وتحسين أعمالها، وكذلك في مجال السياسة والتفاعلات الدولية في إطار التنافس الدولي وفي إطار بلورة النظام الدولي الجديد الذي تتشكل ملامحه الآن في ظل الصراع ما بين أنصار الأحادية القطبية التي تقودها الولايات المتحدة والنظام متعدد القطبية الذي تقوده روسيا والصين، وأضحى الذكاء الاصطناعي أحد أبرز ملامحه.