أفكار وآراء

مستقبل الإعلام.. يبدأ الآن

03 فبراير 2019
03 فبراير 2019

أ.د. حسني نصر -

التوصيات التي خرجت بها ندوة «إعلام المستقبل»، التي نظمتها وزارة الإعلام صباح الأربعاء الماضي ضمن فعاليات ملتقى الأسرة الإعلامية الثالث، وتحت رعاية معالي الدكتور عبد المنعم الحسني وزير الإعلام، تمثل بالفعل خارطة طريق لمستقبل صناعة الإعلام في سلطنة عمان.

لم تكن الندوة التي شهدت حضورا كبيرا من جانب كبار المسؤولين بوزارة الإعلام والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون والإعلاميين والأكاديميين وطلاب الإعلام بجامعة السلطان قابوس، هي الفقرة الوحيدة في الملتقى السنوي التي تحرص الوزارة علي عقده للعام الثالث على التوالي، والذي شهد في الفترة المسائية فقرات متنوعة شملت كلمة معالي الوزير التي جمعت بين إنجازات الوزارة في العام المنصرم، وبين خطة عملها خلال العام الحالي، بالإضافة إلى تكريم بعض رواد العمل الإعلامي الإذاعي والتلفزيوني، وإعلان وتوزيع جوائز مسابقة الإجادة الإعلامية السنوية، والتي كانت مخصصة في هذه الدورة للأعمال الإذاعية والتلفزيونية.

وما دام الحديث يتعلق بالمستقبل فإنه من الضروري أن نشير إلى ما تضمنته كلمة وزير الإعلام من أعمال سوف تقوم بها الوزارة خلال هذا العام، وتصب جميعها فيما يمكن أن نطلق عليه دعم المدخلات الأساسية لصناعة الإعلام في السلطنة، وعلى رأسها العنصر البشري الذي توليه الوزارة عناية فائقة، سواء من خلال تقديم المزيد من برامج التأهيل والتدريب التي أعلن الوزير انطلاقها ببرنامج تنمية المهارات الإعلامية بالإضافة إلى حزمة أخرى من البرامج التدريبية التي من المتوقع أن ينفذها مركز التدريب الإعلامي، أو من خلال تنظيم الندوات المتخصصة مثل ندوة الإعلام والطفل، إلى جانب تخصيص جائزة الإجادة الإعلامية لهذا العام للإعلام الإلكتروني، واستمرار مجلس الحوار الإعلامي وإقامته في مختلف محافظات السلطنة.

لقد نجحت ندوة «إعلام المستقبل» في طرح رؤى مستقبلية مهمة يمكن الانطلاق منها نحو تعزيز دور وسائل الإعلام الوطنية في مسيرة النهضة، ومواكبة التطلعات الإعلامية للمجتمع العُماني، إلى جانب مواكبة المستجدات التكنولوجية المتسارعة والتغيرات الحادة التي من المتوقع أن يشهدها الواقع الاتصالي في المستقبل القريب.

وهنا لا بد أن نؤكد أن اختيار المستقبل ليكون عنوانا للندوة، وربط هذا العنوان بتجديد العهد الذي يحمله شعار الملتقى، كان اختيارا ذا دلالة، يؤكد التوجه العام للسلطنة نحو استشراف المستقبل والاستعداد له علي جميع المستويات، وهو ما يتضح في الجهود التي تبذل حاليا لبلورة رؤية عمان 2040، كما يؤكد حرص وزارة الإعلام على النظر للمستقبل ومناقشة تحدياته، سعيا إلى تحديد السبل الكفيلة بالتعامل العلمي المنهجي مع تداعياته. وفي ضوء ذلك تم توزيع مداخلات الندوة على ثلاثة محاور متناغمة بدأت بتحديد ماهية إعلام المستقبل وخصائصه، ثم انتقلت إلى استعراض مستقبل استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الإعلامي، وانتهت بطرح التحديات التي تواجه الإعلاميين أو منتجي المحتوى الإعلامي في المستقبل والمهارات التي يجب أن يتزودوا بها للعمل في بيئة الإعلام المستقبلية.

وقد جاءت توصيات الندوة لتؤكد جميعها علي الفلسفة التي يجب أن تحكم عمل المؤسسات الإعلامية في قادم الأيام وتواكب إفرازات الثورة التكنولوجية من جانب، وتغير خصائص واحتياجات الجمهور الجديد من جانب آخر. ولعل أول وأهم هذه التوصيات تلك التي جاءت موجهة إلى المؤسسات الإعلامية ودعوتها إلى البدء في تطوير محتواها الإعلامي ليكون قادرا على تلبية احتياجات مستخدمي منصات النشر المختلفة في المستقبل.

والواقع أن تطوير المحتوى الإعلامي يمثل تحديا حقيقيا ليس لوسائل الإعلام الوطنية فقط، ولكن لكل وسائل الإعلام في العالم. ففي ضوء تغير خصائص مستخدمي وسائل الإعلام الذين سيكون معظمهم من أبناء الجيل الرقمي الذي لا يحمل ولاءً كبيرا للوسائل التقليدية والمحتوى التقليدي، ومع تعدد منصات النشر وتنوعها وزيادة التنافس بينها على المستخدمين، فإن المحتوى الإعلامي لن يكون نفس المحتوى الحالي، وسوف يتطلب الأمر إنتاج قصص إعلامية مفعمة بالحياة وشديدة القصر والإيجاز من جانب، ومزودة بالعناصر المرئية والوسائط المتعددة، والقادرة على جذب المستخدم وإثارة انتباهه وإبقائه لأطول فترة ممكنة على المنصة الإعلامية من جانب آخر.

وفي هذا الإطار يحسب للندوة تأكيدها على المهارات التي يجب أن يتسلح بها إعلاميو المستقبل، الذين سيكون عليهم تقديم محتوى شامل. والمهارة الأولى التي يجب أن يتقنها إعلاميُّ المستقبل هي المرونة. إذ سيكون من المتوقع منه القيام بمجموعة من الأعمال تتزايد وتتعقد بمرور الوقت. وتعني المرونة القابلية والرغبة والقدرة على أداء مهام متنوعة ومتعددة ربما في نفس اليوم. ونعتقد أن تلك المرونة سوف تمثل الاختلاف الأساسي التي سوف تميز صحفيَّ أو إعلامي المستقبل. وإلى جانب إتقان المهارات التقليدية في جمع الأخبار، فإن الإعلامي سوف يحتاج في نفس الوقت إلى إتقان مهارات التعامل مع الصحافة الخوارزمية، أو صحافة الروبوت، وهي تلك الصحافة التي يتم فيها صناعة المحتوى الإعلامي وتوزيعه باستخدام برامج الكمبيوتر وبرامج الذكاء الاصطناعي بدلاً من الصحفيين البشريين. وتقوم تلك البرامج بالبحث عن المعلومات حول الموضوع المحدد وتنظيمها وتحليلها وتفسيرها وإعدادها للنشر وفقا لأوامر يتم تغذيتها بها من جانب الصحفيين. وإذا كان البعض يتوقع أن تقوم الخوارزميات الذكية بتقديم المعلومات والمحتوى الإعلامي التي تُهِم المستخدم، وذلك على قنوات النشر المناسبة أيضا، فإنه من المتوقع أيضا في ظل تزايد وانتشار هذه الصحافة التي أدخلتها بعض الصحف العالمية الكبرى على نطاق تجريبي منذ عامين تقريبا، أن يبقى الصحفيون البشريون هم عصب صناعة الإعلام مهما تغيرت وتطورت التكنولوجيا، وتؤكد الدراسات في هذا المجال أن إمكانات صحافة الروبوت لن تفوق أبدا مهارات الصحفيين، بشرط الإلمام بمثل هذه التطورات التكنولوجية المهمة. ولذلك فإن الصحفي البشري في المستقبل سيكون قادرا على تجاوز التهديدات القادمة من صحافة الخوارزميات من خلال تطوير مهارات التفكير والإبداع لديه، وذلك عبر تبني ما يسمى «التفكير المتعدد الجوانب» أو التفكير بعقل منفتح على كل الاتجاهات.

إن أهم ما يمكن أن نخرج به من الندوة المهمة حول إعلام المستقبل، أن هذا الإعلام سوف يقوم في جزء كبير منه على المهارات الإعلامية الأساسية التي يتوارثها الإعلاميون من جيل إلى جيل سواء على مستوى جمع المعلومات والبيانات، أو على مستوى الكتابة الواضحة والدقيقة والموضوعية. ومع ذلك فإن اختلاف الوسائل التي ستحمل رسائل إعلام المستقبل وهي منصات النشر الرقمية المتنوعة، بالإضافة إلى اختلاف طبيعة الجمهور، يتطلب استعدادا من الإعلاميين للتعامل مع متطلبات هذه الوسائل الجديدة، وذلك عبر إتقان المهارات اللازمة لإنتاج المحتوى الإعلامي وتوزيعه على منصات النشر الرقمية في المستقبل.

إن المستقبل يبدأ الآن، أو بدأ بالفعل.. وعلى هذا الأساس فإن ما قد يبدو خيارا مفتوحا أمام الصحفيين لإتقان مهارات إعلام المستقبل، سوف يكون هو السبيل الوحيد للبقاء في المهنة والاستمرار في العمل الإعلامي.