أفكار وآراء

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في عالم السياسة

30 يناير 2019
30 يناير 2019

مصباح قطب -
[email protected] -

خرج المؤتمر الصحفي بين الرئيسين المصري والفرنسي يوم الاثنين الماضي في القاهرة، عن كل التقاليد المتعارف عليها في مثل هذا النوع من الأحداث، أو تحول -أو أراد الرئيس المصري أن يحوّله- إلى نقاش علني شفاف ومكشوف بين وجهتي نظر ظل طرحهما يتم بشكل موارب منذ بداية التسعينات وحتى الآن ألا وهما: أيهما له الأولوية الحقوق السياسية مثل: حرية التعبير والتظاهر أم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟ وبشكل أكثر دقة أيهما يجب أن تكون له الأولوية في ظروف أي بلد كمصر تعاني من هجمات الإرهاب المتستر بالدِّين والمدعوم من أطراف إقليمية وغربية، كما تعاني من تحديات البطالة والفقر وضعف الخدمات والدخول: السياسة أم الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي ؟

إن أسهل الإجابات عادة هو ذلك الذي يلتزم الجانب النظري المريح، بحيث يقول صاحبه بنوع من الارتياح أن السياسة هي الأصل، وهي التي تقود الاقتصاد وغير الاقتصاد، وبالتالي يجب أن تتم تعلية الحقوق السياسية إلى الصدارة، ليرد آخر بنفس الارتياح الشكلي بالقول إن السياسة تعبير فوقي عن بنية المصالح الاقتصادية والاجتماعية القاعدية بل والثقافية التحتية وبالتالي يجب العناية أولا بالبناء القاعدي للمصالح بحيث تكون متوازنة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، ومن ثم ينجم عنها بناء سياسي علوي متوازن أيضا. كل طرف يستطيع أن يحشد من الأسانيد الكثير لتأييد وجهة نظره، فهذا يقول إن كل الدول المتقدمة اقتصاديًا واجتماعيًا وحضاريًا هي دول تحترم الحقوق السياسية، والتعددية، ويقول آخر: إن التقدم في الدول الغربية تم أصلا بعد صراعات وحروب دامية، وتم في جانب منه على حساب نهب المستعمرات، بينما التقدم في بلد كالصين قام على دعامة توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أولا، وبعدها يتم فتح الملعب السياسية بشكل متدرج، وحققت هذه الاستراتيجية في زمن قصير قفزات مذهلة، وهكذا، وفي اعتقادي أن الأمر شأنه شأن أي شيء آخر في عالمنا المعاصر أكثر تعقيدا بالفعل، ولا يمكن اختصاره في أما كذا وأما كذا، وقد كان لافتا تأكيد الرئيس المصري على أهمية الإنصاف في التحليل، حيث لا يمكن أن تتجاهل سقوط نحو ٣٥٠ مواطنا مصريا داخل مسجد في عدة دقائق، وهم يصلون على يدي جماعات الإرهاب وتقيم الدنيا ولا تقعدها عند محاسبة مدون، كما لا يمكن أن تهمل في التقييم كل ما تقوم به مصر -كمثال- في مجال تغيير حياة وواقع الملايين من سكان العشوائيات غير الآدمية (الحق في السكن) وفحص الحالة الصحية لعشرات ملايين المصريين البسطاء وعلاج ملايين منهم من مرض فتاك مثل فيروس سي (الحق في الصحة)، وتقف فقط عند اتهامات بشأن معاملة غير جيدة لسجين سياسي أو سجين قضية تطرف تتم محاكمته طبقا للقانون؟ وأيضًا لا أقلل مما قاله ماكرون من أن الحقوق السياسية والحريات هي قيم عالمية يجب أن نتبناها جميعًا، وهي التي تحقق استقرارًا راسخًا، لكن طرح قوله تلقائيا سؤالا صعبا للغاية هو: من له الحق في أن يتحدث باسم تلك القيم العالمية، ويخاطب الدول بأن تلتزم بها ؟ الإجابة التقليدية كانت أنها المنظمات المتعددة الأطراف التي ارتضاها المجتمع الدولي لكن واقع الحال يشير إلى أن رأس النظام العالمي حاليا وهو الولايات المتحدة تعمل بكل قوة على أضعاف ولا أقول إتلاف هذا النظام، وتسعى لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء بحيث يكون الأصل هو الدول

الوطنية، وما تقرره، أو بمعنى أدق ما تستطيع تقريره لخدمة مصالحها بغض النظر عن مصالح الآخرين أو مصالح النظام الدولي، وهذه الفلسفة تعني واقعيا أن حقوق الإنسان التي هي قيم عالمية كما قال ماكرون ستصبح قيما محلية وشأنا محليا وبالتالي لا يحق لأي دولة أن تكلم دول أخرى عنها، ويزيد من تعقيد الموقف أن الشكوك أصبحت تحيط أداء معظم إن لم يكن كل المنظمات الدولية خاصة المعنية بحقوق الإنسان وأصبحنا نرى كيف يتم تسييس ملفاتها بشكل مؤسف وكيل أمورها بمكيالين جَهْارًا نهارًا، ويعزز هذا أيضا بدوره من عملية تحويل الحقوق إلى قضية محلية ما دام لا توجد ثقة فيما هو عالمي مما يتعامل مع القيم العالمية المتجسدة في حقوق الإنسان. ما العمل إذًا؟ ما العمل والسياسة نفسها وما يرتبط بها من حقوق تمر بمحنة بلغت ذروتها باتهام روسيا بالتدخل في انتخابات أمريكا لإسقاط هيلاري كلينتون ولما قال البعض إن أمريكا تتدخل طوال الوقت في الملعب السياسي للدول لصالحها قيل ولكنه تدخل حميد عكس التدخل الروسي الشرير؟ والاتهام الأول والرد عليه ومجريات الأمور في الانتخابات الأوروبية الحالية كلها تعزز الشكوك في العملية السياسية حتى في أعتى الدول الديمقراطية، فكيف نصون القيم العالمية إذًا ومن يقوم على صيانتها؟ ما العمل مرة ثالثة؟ وكيف تتعامل بلادنا مع تلك المعضلات؟. في تقديري أن الاحتياجات التنموية في دولنا العربية تغدو أكثر إلحاحا يوما بعد آخر وتدعم أوضاعنا في المؤشرات الدولية هذا الرأي، وكما قال الدكتور محمود محيي الدين -النائب الأول لرئيس البنك الدولي- في قمة بيروت الاقتصادية فإن الفقر المدقع نقص في العالم وتضاعف في عالمنا العربي، والبطالة عربيا ضعفا المعدل العالمي تقريبا، وهي تتفشى أكثر بين الجامعيين، ومعدلات الادخار والاستثمار والابتكار ضعيفة عربيا، وموقعنا في التعليم والتنمية البشرية لا يسر الخ. لا بد إذا من تحقيق قفزات تنموية لتعويض ما فات واللحاق بعالم يجرى بطبيعته، ولا تملك دولنا ترف السفسطة المضيعة للوقت بالفعل، لكن كيف نضمن جودة وسلامة أولويات عملنا التنموي والحقوق والحريات السياسية في بلادنا ليست على ما يرام سواء كان السبب طبيعة السلطات ذاتها أو تحديات مثل انتشار الإرهاب والتطرف ؟ هنا بوسعي أن أعرض نقطتين الأولى أن الثقة في نزاهة وسلامة مقاصد وتوجهات القيادات وإخلاصها أمر حاسم لقبول نوع من تأخير إطلاق الحريات السياسية بكمالها أو قبول مبدأ التدرج فيها، وثانيا لابد من بناء مؤسسات قوية تضمن داخلها أوسع قدر من النقاش حول قرارات الإنفاق العام والمشاريع المقترحة ومناسبة الأوليات لاحتياجات التقدم الحقيقية، ومتطلبات أغلبية الشعوب، وكي نضمن ثانيا السلامة المالية للتصرفات والتعاقدات والارتباطات وتوزيع الأدوار والأعباء والأعمال.

إن تأخير الإصلاح السياسي وعدم العناية ببناء مؤسسات قوية في وقت واحد يمكن أن يقودا إلى نتائج سلبية للغاية وخطيرة، ويجب أيضا مع بناء المؤسسات ذات الكفاءة والثبات التي لا تحيد عن فكرة تطبيق القانون على الجميع ومحاربة الفساد بشكل شامل ومدروس، فهل يحل هذا الطرح مأزق التناقض المستمر وغير الطبيعي بين الحريات والتنمية ؟ آمل ذلك تماما بمثلما آمل أن تتم عمليات التحول السياسي إلى دولة الحريات الشاملة والعضوية والمتكاملة في منطقتنا، بأسرع وقت، وأعني الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.