أفكار وآراء

البعد الاستراتيجي للتنمية.. أهداف وبرامج وقرارات

27 يناير 2019
27 يناير 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -
[email protected] -


وتبقى الاستراتيجيات، في مفاهيمها المختلفة، ولعناوينها الكثيرة؛ الدليل الاسترشادي لكل الأنشطة الإنسانية في الحياة، ويقينا، لن تضار سياسة تتخذ الاستراتيجيات منهجا لأعمالها المختلفة، مهما اجتاحتها من ظروف مختلفة، حيث يبقى العمل المنظم المبني على المعرفة هو البوصلة الموصلة إلى الضفة الآمنة.

المناقشة هنا تذهب كثيرا إلى ضرورة إيلاء فهم الاستراتيجية فهما حقيقيا يحتمه واقع الحال في مختلف الأنشطة الإنسانية، بدءا من النشاط الفردي على مستوى الفرد في المجتمع، مرورا بالنشاط الجمعي على مستوى الجماعة الواحدة: أسرة، مجتمع قرية، مؤسسة، جمعية، منظمة، وصولا إلى مستوى مؤسسات الدولة مجتمعة، في صورة معبرة عن تكامل في مختلف أنشطة مؤسسات الدولة، بحيث لا توجد صورا مشوهة في حقيقة توظيف الاستراتيجية في معناها الواسع، والاستراتيجية وفق معناها الاصطلاحي هي: «مجموعة السياسات والأساليب والخطط والمناهج المتبعة من أجل تحقيق الأهداف المسيطرة في أقل وقت ممكن وبأقل جهد مبذول»- وفق المصدر: (http:/‏‏‏/‏‏‏www.alkawthartv.com)- ومع ذلك يأخذ مفهوم الاستراتيجية معاني كثيرة، وتتعدد هذه المعاني وفق المنظور المشار إليه، سواء كانت الإشارة إلى البعد الاجتماعي، او البعد الاقتصادي، أو البعد البيئي، وهي الأبعاد ذات القيم المعرفية المتداولة في كثير من التعريفات التي قرأتها، وهي الأبعاد؛ أيضا التي توثق في برامج الأمم المتحدة، وفي كل مؤتمراتها التي تقام في كل مرة «إن الاستراتيجية كمفهوم تعد من أكثر المفاهيم التي أثارت جدلاً في ميدان السياسة، ولا سيما الاختلاف حول حقيقة المعنى الذي يمكن أن تستخدم في نطاقه، كما أنها أصبحت تستخدم في ميادين مختلفة، على الرغم من ولادة هذا المفهوم وتطوره في العلم العسكري» كما جاء في (https:/‏‏‏/‏‏‏www.babonej.com) -.

وعند العودة إلى المرجعية التاريخية، فإن مفهوم الاستراتيجية لم يخل من أي نشاط إنساني مستمر، فكل الأنشطة الإنسانية خاضعة لهذا السلوك التنظيمي الموصل إلى نتائج محققة للآمال والطموحات، سواء اتخذ هذا التنظيم سلوكا منظما، وفق مفهوم المؤسسة، وتحت مسميات عملية معروفة، وفق الفهم السائد؛ أو سلوكا يذهب إلى ذات التنظيم، يتخذه الأفراد لإضفاء المزيد من التنظيم، والتحكم في النتائج، ولعلنا نعيشه جميعنا، ونحن نخطط لمختلف مسارات حياتنا اليومية، حيث يظل الحرص قائما وملحا على أن تظهر النتائج لمختلف الأنشطة التي نقوم بها، حاكمة وضابطة، ولا نرضى أبدا بأن تكون النتائج هزيلة، أو متواضعة، وبالتالي حتى يتحقق هذا الحرص بالصورة التي نرجوها لنتائج أفعالنا، ننطلق به من خلال وضع هذه الاستراتيجيات، وإن كان الكثيرون منا، لا يستحضرون الفهم العلمي للاستراتيجية، ولكننا نمارسه بعفوية، وهو يذهب إلى ذات المعنى الذي تحرص عليه المؤسسة في جميع أنشطتها، ولذلك: «تتعدد استخدامات الاستراتيجية في الوقت المعاصر، فقد يوصف موقع دولة بأنه استراتيجي، وقد يصف قرار سياسي أو اقتصادي بأنه استراتيجي، كما يطلق وصف استراتيجي على بعض الأسلحة المتطورة، فيشار إلى معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية «سالت» كما توصف بعض الموارد والسلع الاقتصادية (Strategic arms limitation treaty) بأنها استراتيجية، أو قد يوصف تفكير ما بأنه استراتيجي» – حسب المصدر: (https:/‏‏‏/‏‏‏www.babonej.com) -.

إن الأبعاد التي اعتمدتها منظمة الأمم المتحدة في مؤتمراتها، هي الأبعاد الشاملة في حياة البشرية كلها على اختلاف مشاربها وأنشطتها، وتوجهاتها، فالبعد الاجتماعي: يقيمه كثير من المنظرين في الشأن الاجتماعي على أن البعد الاستراتيجي في هذا الجانب يتناول كل ما يتعلق بالإنسان، بدءا من حياته الخاصة، وبحياته مع مجتمعه القريب، وبحياته في ظل مؤسسة تعتني به عناية خاصة، متخذة من الثيمة الاجتماعية سندها الذي تتكئ عليه لهذا الاهتمام، معززة وجوده، واستمراره، ومن ثم بقاءه بنفس معززات الكفاءة القادرة على استمرار هذا البقاء، ومن ذلك مستوى محقق وبكفاءة الحياة الاجتماعية التي تحترم إنسانيته، وقدره المعنوي، بما في ذلك مجموعة الخدمات التي يكفلها له القانون، دون المساس بأي منها مهما كانت الظروف، ودون أن يحمله مشقة المطالبة بها، تحت أية ظروف أيضا، فالبعد الاستراتيجي في هذا الجانب يتحرر كثيرا من الظروف المحلية التي تفرضها البيئات الاجتماعية؛ وفق نظام أي دولة؛ بل يعمل على تحرير الفرد من العوالق الاجتماعية التي تحد من الاستحقاقات الاجتماعية والتنموية، ولذلك تنجح بعض الاستراتيجيات الموضوعة للشأن الاجتماعي في دول، ولا تحقق نجاحات تذكر في دول أخرى، ولعل البعد السياسي يكون له دور محوري أكثر في تفعيل نجاحات أهداف الاستراتيجيات الموضوعة في البعد الاجتماعي، كما هو الحال في بقية الأبعاد المعتمدة.

وفي الإطار ذاته ينظر إلى البعد الاقتصادي على انه محور الاستراتيجيات الكبرى في أي دولة كانت، ولذلك ينظر إليه بكثير من الاهتمام، ويعد بأنه عصب الحياة في أي مجتمع، وبالتالي تحرص الحكومات على تعزيزه، والأخذ بمقوماته، وتوليه الاهتمام الأكبر، والعمل على تعزيزه واستثمار مقوماته، والبحث المستمر عن مقومات أخرى، تتناسب والظروف المحيطة، وتطورات الأوضاع العالمية، مع بناء الرؤى الاستشرافية بصورة دائمة، والتي من شأنها أن تضع الاعتبارات الكثيرة لنصيب الأجيال اللاحقة، وخاصة في جانب الكنوز والثروات الطبيعية، والعمل بصورة جادة على عدم استغلال هذه الثروات الطبيعية بصورة مفرطة، والمحاولة الجادة للبحث عن خيارات أخرى جديدة، وترك هذه الثروات الطبيعية للأجيال القادمة؛ قدر الإمكان، وذلك من خلال استغلال التقنية الحديثة التي توفر الجهد والمال وتقصر من الفترات الزمنية، بحيث يحدث كل ذلك داخل إطار الاستراتيجية الموضوعة، بتحديث أهدافها وبرامجها، وآليات العمل الفاعلة فيها.

ويأخذ البعد البيئي أهمية أخرى في إطار الاستراتيجية المتكاملة الموضوعة لهذه الأبعاد الثلاثة المستحوذة على اهتمامات المجتمع الدولي، فهذا البعد؛ كما هو معروف؛ يعتمد كثيرا على مخرجات المجال الاقتصادي، وهناك صلة وثيقة بين الإثنين، ولذلك تأتي النداءات العالمية مستمرة نحو المحافظة على هذا الجانب، ووضع الاستراتيجيات المحكومة زمنيا بالمحافظة على البيئة، وقد تناولت كل القمم العالمية: «قمة ستوكهولم (1972م) وقمة جانيرو عام (1992م) وقمة جوهانسبرج (2002م) والذي عرف بـ ريو 10، ومؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة في ريو دي جانيرو (2012م) والذي عرف باسم ريو 20» – حسب (https:/‏‏‏/‏‏‏research.un.org/‏‏‏) - أخذت مأخذ الجد للحد من تطاول الإنسان على البيئة، ومن ضرورة إيجاد حالة من التوازن بين الضرورات والمحظورات، ومحاولة الموازنة في استغلال المقومات البيئية، فلا إفراط ولا تفريط، حيث يأتي أهمية المحافظة على حقوق الكائن الحي أولوية قصوى في هذا الجانب، ويفهم من ذلك أن أية استراتيجية موضوعة للتنمية المستدامة، إن لم تأخذ بهذه الأبعاد الثلاثة، على وجه الخصوص؛ فإنها ستسير «عرجاء» ولن توفق للوصول إلى الغايات الكبيرة، وكذلك الحال في التفريط في محددات أي بعد من هذه الأبعاد، وعدم الأخذ بأسباب نجاحاته، سيواجه بنفس المصير، فالاستراتيجيات عندما توضع لأي شأن من شؤون الحياة اليومية، فهي توضع لاستجلاء الحقائق على الأرض، وعدم الدخول في معترك الظروف الطارئة، أو القائمة على كل حال، في الوقت نفسه تستدعي هذه الاستراتيجيات في كل مرة المراجعة، والتغيير والتبديل في أهدافها، سواء تلك بعيدة المدى، أو قصيرة المدى، وذلك امتثالا للظروف المستجدة على الواقع.

وفي ختام هذه المناقشة أميل كثيرا إلى البعد التشريعي، وأراه المحدد المهم لضبط البوصلة، ليس فقط لدوره في المتابعة لشأن الاستراتيجيات التي تضعها الحكومات، ولكن على أن التشريع يظل هو الحاكم أو الضابط لمجريات مختلف الأنشطة الإنسانية المحكومة بالأهواء وبالرغبات، وبـ (خائنة الأعين وما تخفي الصدور)، حيث يبقى التشريع؛ وفق النص؛ هو المعول عليه لاستقامة الاعوجاجات التي يرتكبها البشر في حق أنفسهم، وفي حق كل ما يحيط بهم، مع علمهم بمضار كل سلوك معوج يقومون به، وبالتالي متى تم الاحتكام إلى التشريع، سلمت كل الأنشطة الإنسانية التي يضعها البشر لمقومات حياتهم اليومية، وتأتي الاستراتيجيات، المحسوبة دائما على فتراتها الزمنية الطويلة؛ في كثير من الأحيان؛ لتفرض على القائمين عليها وعلى توظيفها وجود هذا التشريع لتكمل مسيرتها البنائية في حق الحياة، وبدون هذا التشريع، فلن تكتمل مسيرة أي استراتيجية بالصورة التي ترسم لها عند بداية النشأة الأولى، أو وضع حجر الأساس الأول لها، ولن تبلغ غاياتها العليا، ذلك أن البشر شديدو التغيير، والتقلبات، والعودة سريعا إلى مظان النفس، والنفس، كما هو معروف؛ (أمارة بالسوء).

وتبقى الاستراتيجيات؛ في مفاهيمها المختلفة، ولعناوينها الكثيرة، الدليل الاسترشادي لكل الأنشطة الإنسانية في الحياة، ويقينا، لن تضار سياسة تتخذ الاستراتيجيات منهجا لأعمالها المختلفة، مهما اجتاحتها من ظروف مختلفة، حيث يبقى العمل المنظم المبني على المعرفة هو البوصلة الموصلة إلى الضفة الآمنة.