أفكار وآراء

دلالات سياسية للقمة الاقتصادية العربية

26 يناير 2019
26 يناير 2019

د. عبدالعاطي محمد -

خلال السنوات القليلة الماضية طرأت عوامل جديدة عمقت من وطأة المشكلات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية لعل أهمها اندلاع الحروب الأهلية وما نجم عنها من دمار في البشر والحجر، وانتشار خطر الإرهاب وما ترتب عليه من انعدام الأمن مما كان يعني استحالة الإقدام على أية مشروعات اقتصادية.

أحاطت بالقمة الاقتصادية العربية التنموية والاجتماعية الرابعة التي عقدت ببيروت أجواء وتعليقات سياسية تعكس الواقع العربي المعاصر الذي لا يزال يتسم بالانقسام على خلفية أزمات سياسية عدة ما زالت ممتدة منذ العام 2011. ولكن انعقادها في حد ذاته وما جاء فيها من مبادرات لإنعاش العمل العربي المشترك على الصعيد الاقتصادي يشير إلى أن هناك حراكا عربيا رسميا بدأ يتزايد قوة وتأثيرا للتخلص من الصورة السلبية والمتشائمة لهذا الواقع.

من يريد أن ينظر فقط إلى نصف الكوب الفارغ يستطيع أن يدرج عديد العقبات السياسية التي تقف في وجه الطموحات العريضة التي ارتبطت بهذا النوع من القمم العربية الذي بدأ العام 2009 بالكويت. وأى وجهة نظر واقعية أو موضوعية لا يمكن أن تغفل هذه العقبات. فلم يكن منتظرا أن ينخفض التمثيل الرسمي إلى حد مشاركة ثلاثة قادة فقط هم الرئيس اللبناني ميشال عون بوصفه رئيس الدولة المضيفة، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد، ورئيس موريتانيا محمد ولد عبد العزيز، مما بدا للوهلة الأولى وكأنه مؤشر على المقاطعة للقمة. وقد أعرب الرئيس اللبناني عن أسفه لمستوى المشاركة. ولم يكن منتظرا أن تسبق القمة مناوشات وخلافات داخل الدولة المضيفة ذاتها ألقت بظلالها على الإعداد لعقد القمة. ولم يكن منتظرا أن لا تجد هذه القمة الاهتمام الذي يليق بها على الصعيد الإعلامي العربي برغم جدية موضوعاتها والدلالات السياسية المهمة لانعقادها وسط الظروف السياسية الصعبة التي تمر بها المنطقة العربية. ومن المؤكد أن الشعور العام عند الرأي العام العربي كان ينتظر تلمس أجواء عربية إيجابية تدفع بالأمل بأن العمل العربي المشترك بدأ يستعيد عافيته، وهو ما لم يجده في الحقيقة ودون تجميل للموقف.

ولكن ما أسهل النظرة لنصف الكوب الفارغ، إلا أنها دائما ما لا تقود إلى تصحيح للأوضاع الخاطئة، لأنها تهتم فقط بكيل السلبيات والعقبات وترفع شعار التشكيك في كل شيء. وتزداد خطورة هذه النظرة عندما تكون هناك أزمة أو حزمة من الأزمات حيث تؤدى إلى تعميقها وعرقلة أية جهود لتصحيح الأوضاع. وتستحضرنا هنا كلمات للأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش عندما سئل في نهاية مفاوضات استكهولم لحل الأزمة اليمنية عما إذا كان يرى ما جرى هو علامة على استمرار وجود نصف الكوب الفارغ بحكم تعقيدات الأزمة والشكوك في مدى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، فرد الرجل قائلا ولماذا لا نقول أننا وضعنا بعض الماء في الكوب الفارغ، في إشارة إلى منهج إيجابي في التعامل مع الأزمات، يبنى شيئا فشيئا ولا ينظر للكوب على أن نصفه فارغ أو نصفه ممتلئ.

بالمعنى السابق يمكن النظرة لما جرى في بيروت بشكل واقعي تماما لا ينفي وجود السلبيات وهى كثيرة ولكنه يبحث عن الجديد الإيجابي الذي ارتبط بعقد هذه القمة. فمن المعروف أن هذا النوع من القمم العربية كان نتيجة مبادرة مشتركة ما بين الكويت ومصر العام 2008 فلسفتها أن التركيز على العوامل الاقتصادية الإيجابية بدلا من العوامل السياسية السلبية هي السبيل إلى تحقيق تنمية اقتصادية عربية مستدامة وحلا للمشكلات الاجتماعية، والنجاح في هذا الجانب الاقتصادي والتنموي يؤدى إلى حل المشكلات السياسية القائمة مهما تكن صعوبتها. آنذاك لم تكن هناك أزمة سياسية سوى الوضع المضطرب في العراق، ولم يكن الإرهاب قد تزايد وانتشر كما هو الآن، ولم تكن هناك خلافات سياسية مقلقة بين النظم العربية، وكان حال الجامعة العربية جيدا والآمال معقودة على المزيد من العمل العربي المشترك. وقد ساعدت هذه الظروف على نضوج الفكرة وتم بالفعل عقد أول قمة اقتصادية تنموية اجتماعية بالكويت يناير 2009. ووقتها استبشر الجميع خيرا خصوصا أن الدول الغنية دعمت مبادرات عدة لإنجاح الفكرة، وتم تفعيل عديد الأنشطة ضمن ما ورد في لقاء الكويت. وتعبيرا عن الجدية التزمت الدول العربية بعقد القمة كل سنتين في بداية العام، وهكذا استضافت مصر قمة يناير 2011، واستضافت السعودية قمة يناير 2013. وبعدها توقف تماما عقد القمة بسبب الظروف السياسية المضطربة التي صاحبت ما عرف بثورات الربيع العربي، إلى أن استضافت لبنان القمة الرابعة يناير 2019 أي بعد 6 سنوات من قمة السعودية!.

هنا لابد من وقفة موضوعية لتبيان الدلالات السياسية لقمة بيروت بغض النظر عن احترام وتقدير كل وجهات النظر السلبية التي أحاطت بها. فما لا يستطيع منصف إنكاره أن الأوضاع السياسية العربية السيئة الراهنة والممتدة منذ نحو 9 سنوات والتي زادت سوءا منذ الأزمة الخليجية، ما كانت توحى بإمكانية عقد القمة الاقتصادية الرابعة. صحيح أن القمم العادية يجري انعقادها بانتظام، ولكن القمة الاقتصادية مثلت منذ ظهورها بابا للأمل عند كل العرب لتحقيق إنجاز مهم للغاية ينهض بالأمة العربية من كبوة التخلف خصوصا مع تسارع المستجدات العالمية الهادفة إلى زيادة معدلات النمو والاستفادة من الثورة الرقمية والتخلص من البطالة والفقر.

وخلال السنوات القليلة الماضية طرأت عوامل جديدة عمقت من وطأة المشكلات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية لعل أهمها اندلاع الحروب الأهلية وما نجم عنها من دمار في البشر والحجر، وانتشار خطر الإرهاب وما ترتب عليه من انعدام الأمن مما كان يعنى استحالة الإقدام على أية مشروعات اقتصادية، نظرا لما هو معروف من أن الأمن ضرورة أساسية لنمو الاقتصاد، وكذلك ظهور مشكلة الهجرة من مناطق الحروب الأهلية إلى الدول المجاورة الآمنة مما تسبب في وجود كارثة إنسانية من ناحية وضغوط اقتصادية على الدول المضيفة. ومن ثم كان عدم انعقاد القمم الاقتصادية جرس إنذار بأن الكل يعود إلى الوراء مع كل ما ينذر به ذلك من أزمات اجتماعية وعدم استقرار سياسي وانعدام الأمن. ولذلك عندما تعقد القمة برغم الظروف السياسية المعاكسة فإن ذلك يعنى أن هناك «انتفاضة» ما قد حدثت ويجرى تعزيزها لتغيير الوضع السيئ الراهن.

وإذا كان هناك من جدل قد ثار حول هذه القمة، فإنه في تقدير الكاتب ترجمة لوجود اتجاهين داخل الكتلة العربية على الصعيد الرسمي، أحدهما يريد تحريك المياه الراكدة وله قدرة على تفعيل هدفه، والثاني إما متردد أو لا يرغب في تغيير الوضع الراهن. وما الانعقاد إلا دليل على أن الاتجاه الأول له وزنه وعازم على دفع الوضع إلى التغيير، وليس من باب المبالغة القول إن الحراك الذي يحدثه الاتجاه الأول كفيل مع الوقت القريب أن يجعل الاتجاه الثاني أن يصطف إليه. كما أنه يعني وجود استياء عام من استمرار حالة الانقسام وأنه لم يعد مقبولا أن تظل الخلافات السياسية عقبة أمام الطموحات العربية لتحسين الحاضر وبناء مستقبل أفضل، وهذا موقف سياسي بامتياز من العاملين على تفعيله.

ولأن هناك مؤشرات على أن أزمات ما بعد 2011 في طريقها إلى الحلحلة أو التجاوز في ظل ما جرى من مستجدات على أرض الواقع في بلدان هذه الأزمات، وكذلك وجود إرادة دولية على إغلاق الملفات التي أضاعت 9 سنوات من عمر المنطقة العربية، فإن الدلالة السياسية لقمة بيروت تعني أنها في ذاتها بداية التحول من وضع ما بعد 2011 إلى وضع ما بعد 2019. ولذلك لم يكن غريبا أن تهتم قمة بيروت بإعادة تعمير ما خلفته الحروب الأهلية وبالدعوة لإيجاد حل تضامني لمشكلات الهجرة، وكلاهما من تداعيات مرحلة ما بعد 2011. وقد شهدت القمة عدة مبادرات بهذا الشأن وبالوضع العام للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وجرى تضمين هذه المبادرات بآليات محددة لتفعيلها.

التردد والإرجاء لن يفيد أحدا، ومن ثم فإن صانع القرار السياسي العربي ومن يتخذه عليهما أن يتعاملا بإيجابية مع حدث القمة ومخرجاتها. والأهم أن يوفرا الأجواء السياسية لدفع الروح الإيجابية إلى الأمام، فليس من المعقول أن تصدر مبادرات من هذا النوع ويجري التعامل معها بالتردد أو الإرجاء. التجاوز عن العوامل التي أدت إلى تراجع التمثيل الرسمي ممكن، لأن هناك قمة عربية عادية (سياسية بالطبع) من المقرر أن تستضيفها تونس مارس المقبل، ولا شك أن ما جرى بخصوص القمة الاقتصادية سواء من حيث الملابسات التي أحاطت بالإعداد لها أو ما صدر عنها من مخرجات، سيكون حاضرا على طاولة القادة، وهنا ما يرتجى من القمة العادية هو أن تتبنى مبادرات بيروت أو تعدلها، أي أن توفر الغطاء السياسي لنتائج قمة اقتصادية طال انتظارها. وإذا كان من رجاء للإعلام العربي، فإنه إن لم يتبنى هذه النتائج ويضغط لتفعيلها، فعلى الأقل لا يشكك ولا يعمل على تعميق الجراح، فالحال لا يرضي أحدا!.